النشأة الأدبية والأسرية للأديبة أ.د. سناء الشعلان
شهادة إبداعيّة لسناء الشّعلان (بنت نعيمة) عن حياتها الأسريّة ونشأتها الأدبيّ
شهادة إبداعيّة لسناء الشّعلان (بنت نعيمة) عن حياتها الأسريّة ونشأتها الأدبيّة
أيّتها النفس المعنّاة بألمٍ عجيبٍ وأفراحٍ خرافيةٍ وانتظارٍ لا يعرف موئلاً وطريقٍ مسحورة لا تعرف نهاية أو بداية أو أرصفة انتظار عليّ أن أبوح كي أروي حكاية كلمة، إنّها بداية رقص قلم،وأهازيج روح وتجليات ذاتٍ وأناشيد كلمات وانتحارات موانىء.
إذن لأقل كانت ليلة صيفية دافئة تلك التي وُلدتْ فيها في حي قديم،وفي بيت يكاد يكون تحت الأرض تحيط به أشجار بلوط عتيقة ودارس بيوت قديمة، كان يسكنها الشيشان المهاجرون في مدينة صويلح القديمة في الأردن. تلقفتني أيدي الجارات الشيشانيات اللواتي أشفقن على جارتهنّ العربية الشابة الحيية التي صممتْ على الولادة في البيت خوفاً من المستشفى الذي تعتقد أنّه يأسر كلّ من يدخله ،ويقدّمه للموت كما حدث مع أمّها الشابة منذ زمن قريب، فتحمّلت أيام مخاض سبعة، كادتْ تزهق روحها،وأتعبتْ قابلة الحي التي ما اعتادتْ ولادات متعسّرة كهذا،وانزلقتُ إلى الدنيا كبزّاقة حمراء لزجة،وبرأس يشبه الكوسا لشدة ما عانى في المخاض،وجسد نحيل لا يتناسب مع حمل أمي الخرافي الحجم،ولا مع مخاضها الطويل المتعسّر،وهللّتْ الجارات الشيشانيات سعادة؛لأنّني أملك عينين زرقاوين إذا جزمن إنّني ورثتهما عنهنّ، في حين تمنّى أبي على استياء لو كنت ذكراً لا بنتاً، وسمّاني سناء على اسم حبيبة ذابت في الزمن الماضي.
لم أجد في انتظاري أخاً أو أختاً، فقد كنت بكر أبوي،لذلك كنت دائماً خلف باب غرفة مخاض أمي لإحدى عشر مرة ، أنتظر أخاً أو أختاً ، وأتعجّل ولادتهم؛كي تنجو أمي من مخاضها الصّعب،وتكفّ عن صراخها الذي تتشقّق روحها عنه،وأعجب مما يدفعها المرة تلو الأخرى إلى عذاب كهذا،لاسيما أنّني لم أقل لها ولو مرة واحدة في حياتي أننّي أريد أخوة، وإن أسعدني أن أملك ست أخوات وخمس أخوة، يكاد كلّ ثلاثة منهم يبدون توائم ثلاثة ؛لشدة تقارب السّن بينهم.
أنا من أسرة تحفل بالأفكار والخلافات والتناقضات والتناحرات والعتاب ،ولكنّها كذلك تملك ذاكرة تضجّ بالحبّ والذكريات المشتركة،وبمواقف المؤازرة والتفاني والتضحية، أسرتي عالم صغير، وأجمل ما فيه أن تعيش جزئياته ولحظاته ،وتستقي من تجاربه وخبراته العملية والشعورية.
وقد كنتُ شريكة متعاونة لأمي في تربية معظم إخوتي، لذلك فقد عجّتْ ذاكرتي برائحة آلاف حفاضات الأطفال المتسخة،وحفظت عن ظهر قلب أوقات طعام الأطفال، وأزيز بكائهم ،ووهج حماهم ومرضهم،وطقوس أكلهم وشربهم ونومهم ومرضهم،وامتلكت بذلك ذاكرة أم طفلة تعرف عن الأطفال أكثر مما تعرف عن نفسها. ولعلّ هذه الطّفولة التي حاصرتني في كلّ مكان حتى في بيوت الأقارب كثيري الأولاد في الغالب جعلتني أسيرة الطفولة حتى سنّ السادسة عشرة ،إذا بقيتُ حتى ذلك الوقت ألعب بالدمى،وأشارك الصّغار بكلّ طقوس لهوهم،وما كان التوقّف عن الّلعب معهم إلاّ قراراً مني ألزمت نفسي به وحمّلتها به ما هو فوق طاقتها؛ إذ بتّ أخجل من ترقيص الدّمى وأنا أملك جسد امرأة تتسّللّ إليه عيون الرجال بفضول.
وبعدها انتقلت إلى الجامعة، فوجدت نفسي شابة ناضجة على مقعد جامعي، لكن أعماقي بقيت خليطاً من طفولة شقية ومراهقة تنتظر لحظة مجنونة ؛ لتتجلّى بكلّ جنونها وعنادها وجموحها.
أمي المرأة العظيمة في حياتي لم تزعم يوماً أنّها قد قرأت عملاً أدبياً واحداً،فطفولتها القصيرة لم تنعم عليها بالكثير خلا تلك القصص الخرافية التي كان لي ولع شديد بها، التي كنتُ أعدّها معيناً لا ينضب تغرف أمّي منه في كلّ ليلة، وتهبني منه بسخاء، وترسلني بقصصها وقبلها إلى عالمه السّحريّ الرائع، ولطالما ظننتُ أنّ هذا الكنـز لي وحدي، أليست أمّي هي القيّمة عليه؟! وكنت أتميّز غيظاً إذا علمتُ أنّ طفلاً أو طفلة يحفظان ما أحفظ من القصص ظنًّا منّي أنّها تعود لي وحدي؛ فسندريلاّ صديقتي المسكينة، وعقلة الأصبع صديقي القزم المشاكس، وعروس البحر تبوح لي بأسرارها، والأمير الوسيم سيخطبني عندما أكبر، والسّاحرة الشرّيرة كم أتمنّى أن أعضّها، وشهرزاد تملك مثل أمّي الكثير من القصص، وعنترة ليس أقوى من أبي. وما كنت لأتسامح مع أيّ رواية تغيّر كلمة ممّا أحفظ لاعتقادي الطّفولي الراسخ بأنّ حكاياتي مقدّسة لا تحتمل أيّ تحريف.
فيما بعد سلّمت بأنّ شركائي في هذا الكنز كثر، ولا طاقة لي بالاستئثار به دونهم، وقبلتُ بالعشق الشديد لقصصي غنيمة في هذه القسمة.
الكتاب الأوّل الوحيد الذي ملكته في حياتي كان قصة أهدتها أمي لي،لم أكن حينها أعرف القراءة ،فما كنت قد تجاوزت الثالثة بعد،ولكني سعدتُ بها،وظننتُ أنّها المطبوعة الوحيدة من نوعها في العالم،لكنّ القصص والكتب توالتْ بعدها،وانهالتْ علي من والديّ اللذين لاحظا غرامي العجيب بكتبي، إلى أن تعلّمت القراءة،وقد تعلّمتها في الصف الأوّل بسرعة عجيبة،وطفقتُ حينها اكتشف عوالم قصصي،وما ظننتُ أبداً أنّّها بهذا الجمال.
زوجة خالي وبناته اللواتي كن أترابي كن القارئات الأوائل لي،ثم كانتْ الصديقات في المدرسة هنّ القارئات الدائمات لي، وزاد جمهوري عندما انضمّت إليه بعض معلماتي على مضض منهنّ بسبب إلحاحي عليهن ليقرأن ما أكتب لاسيما أنّني كنتُ ٍالمتفوّقة دائماً في اللغة العربية وفي الإنشاء ،وصاحبة الحظوة في قراءة موضوع الإنشاء على جمهور الصّف بسبب تميّزه، فنشأتُ ألقّب بالأديبة الصغيرة،وأزهو حينها بإمكانياتي المتواضعة في الكتابة،ولا أتردّد في أن أعرض ما أكتب من قصص وروايات على الأقارب والجارات والمعارف، أأشادوا بما أكتب أم سخروا. فقد كنت مسكونة بهاجس الكتابة،وأملك جرأة طفولية عجيبة تجعلني أتحّدى السّاخرين مني،وأدعوهم إلى المبارزة الكتابية،وأسعد عندما ينسحبون من هذه المبارزة قبل حتى الخوض فيها، وأردّد على مسامعهم ما قيل لي من جمل الإطراء لي على ما أكتب،وأحتفظ بأيّ قصاصة ورق كُتب عليها ولو كلمة تشجيع واحدة من قريب أو معلّمة.
لم أكن طفلة خجولة أو متوارية، وكنتُ أطمح في أن أعرض ما أكتب على كلّ من أعرف، لذلك كنتُ أنسخ صوراً مما أكتب،وأوزّعه بالمجان على الصّديقات في المدرسة،وكم كان يؤلمني أن أكتشف أنّ الكثير منهنّ لم يكنّ يقرأن ما أكتب،ويعلّلن ذلك بعدم حبّ القصص،فأعجب أنّى لبشر له قلب وروح أن يكره الكلمة والحكاية!!!
وفكّرت في مراسلة مجلة الأطفال الوحيدة التي أعرفها في طفولتي ،وهي مجلة “وسام” الأردنية للأطفال،وراسلتهم بمساعدة أمي،لكن مجلة “وسام” لم تنشر لي شيئاً،فحزنتْ بشدة،وشعرتْ بخيبة أمل كبيرة،وانتقمتْ من تلك المجلة بأن توّقفت عن شرائها.وطبتُ نفساً بانتقامي العظيم!!
كنتُ طفلة لا تعرف السّكون أو الرّتابة أو الحزن أو البكاء، قليل هي المرات التي بكيت فيها في حياتي على الرّغم من أنّني جياشة المشاعر بطريقة محيّرة،وكنتُ صاحبة الأسئلة التي لا تعرف حدوداً. فسألتُ عن الله وعن شكله وحياته،وسألتُ عن مصدر وكيفية تكوّن الأطفال؟واحتججتُ بشدة على فقر الكثير منهم وعلى يتمهم،واستنكرتُ بطفولة ساذجة على الله أن يتركهم في بأسهم دون عون.
أمي الحبيبة كانت امرأة مستحيلة،وما كنت لأكون أنا لو لم تكن هي أمي؛ فهي عوني وملهمتي،فقلة من النّساء من يستطعن التعامل مع طفلة شقية عنيدة متمردة ،تريد كلّ شيء، وتسأل عن كلّ شيء وتشكّ في كلّ شيء مثل أمي، التي ملأت نفسي حباً لطبيعتي المتعبة،وما تبرّمت بي يوماً، وكانت تتفهّم أخطائي وعثراتي،وتشاركني أحلامي،وتؤمن بي،فلو كفرت بي أمي لما نفعني إيمان كلّ البشر بي.
كلّ من حولي شجعوني،ودفعوني بكلماتهم الطيبة إلى المزيد،ولكن مالي والكلمات؟ فهي هباء وهواجس، أمّا أمي فكانت نورًا ويداً في طريق الحياة، آمنتْ بي دائماً ،ودعمتني دون ملل أو كلل، طوّفت بي على الكثير من الملتقيات الأدبية والأمسيات القصصية،وأرسلت مشاركاتي إلى الكثير من المسابقات والمجلات، وفي يوم قرأتُ أنّ الهيئة العامة للكتاب في مصر تعقد مسابقة في فن الرواية، وحينها لم أكن قد تجاوزت العاشرة،ولم أقرأ بنداً يخصّ اشتراط سن معينه، فقررت في لحظة تحدٍ مجنونة أن أشارك في المسابقة، بسرعة عجيبة وفّرت أمي لي آلة كاتبة وكمية مهولة من الأوراق البيضاء،وأنهيت الرواية الضخمة، إذا تجاوزت المئتي صفحة .
ودفعت أمي مبلغاً مالياً ضخماً في تقديري طفولتي، وأرسلت الرواية إلى المسابقة في مصر في طرد بريدي مستعجل. وانتظرتُ الرّد. لكن أحداً من مصر لم يهاتفني بما يخصّ روايتي العتيدة، طال الانتظار، وشعرتُ من جديد بخيبة أمل،لكنّ أمي صمّمتْ على أنّ روايتي ممتازة ،وتستحق الفوز،فصدّقت أمي، فهي لا تكذب، وتجاهلتْ المسابقة التي ما بالت بمشاركتي الجريئة، إذ عرفت بعد سنين أنّ المسابقة كانت لأعلام الروائيين العرب، لا لطفلة صغيرة وعنيدة تعشق الكتابة.
كان الرّسم هو صديقي الأوّل في مرحلة طفولتي الأمّية،ولطالما أعدتُ رسم صور قصصي،فقد كنتُ أملك ثروة من الألوان الجيدة ودفاتر الرسم ذات الورق الثمين،ومئات الأقلام والمساطر وعدة قصّ ولصق كاملة، وشركاء من الأخوة وفائض من الوقت يسمح لي بأن أرسم لساعات طويلة. وكان الرهان بين أمي وزوجة خالي الأثيرة، فأمي كانت ترى فيّ رسامة موهوبة أمّا زوجة خالي التي كان القارىء الأوّل لي فقد كانت تراهن على الأديب الذي في داخلي، ومرت السنون،وكسبت زوجة خالي الرّهان،وبقيت أمي مصمّمة على أنّ في داخلي رسّام متواري خلف كلماتي وقصصي.
أمسكتُ بالقلم منذ كان عمري ثلاث سنوات كي أرسم لا كي أكتب، فقد كنت أحبّ الرسم بالرّصاص، ففيه من الحزن والخجل الكثير، لكن أوّل كلمات قصصية كتبتها كانت في سنّ السّادسة، كانت قصة قصيرة عن طفل يتيم.
أنا ممن لا يرمي أيّ شيء بطبعه؛ بسبب ألفتي الغربية مع الأشياء ،ووفائي المتطرّف لها، فكيف إذن لا أحتفظ بكلّ ما أكتب ، وهو أجزاء من ذاتي، بل ذاتي في بعض تجلّياتها، كلّ شيء كتبت أحتفظ به ؛لأنّه يشكّل سناء في لحظة من اللّحظات، وإن كان ما كتبتُ في طفولتي المبكرة من روايات لم تنشر هو الأثير لنفسي، فهو بمثل جمال اللحظة الأولى والاكتشاف البكر والقبلة الأولى والطفل الأوّل والخطوة الأولى.
كانت لي تجربة أعدّها مفتاح فأل على طفولتي وثقافتي، فقد لاحظت معلمتي للغة العربية في المرحلة الابتدائية ميلي للقراءة ،وتعلقي دون أترابي بالمكتبة، فجعلتني قيمة على مكتبة المدرسة على الرّغم من حداثة سني،ومن هنا بدأت الحكاية، وما كدتُ أنهي العامين حتى كنتُ قد قرأت أكثر من ألفي كتاب في شتى ضروب المعرفة، ونافست على لقب مطالع المدارس على مستوى المملكة الأردنية. وقد استأثرت الرواية بقلبي ، فقرأتُ كل ّعمال: نجيب محفوظ، وماركيز،فيكتور هيجو،وأرنست همنغواي، وحنا مينا، وتوفيق الحكيم، وجمال الغيطاني، وغسان كنفاني، وغادة السمّان، وجورجي زيدان، وعبد الرحمن منيف، وغيرهم.
أنا لست غيورة أو حسودة أبداً، ولكنّني مثال للحقد، فأنا لا أغفر أبداً لمن أساء لي، لكن لا يسرّني أن أنتقم منه، لكنني لا أصفح عنه أبداً،و في الوقت نفسه أنا وفية وعبدة لمن أحسن لي، كذلك كثيراً ما أكذب فيما يخصّ حقيقة مشاعري، وذلك كي لا أجرح مشاعر الآخرين ، فأدّعي ما ليس في نفسي كي أردّ لهم مشاعرهم الطيبة بأخرى رقيقة.ومزاجية إلى حدّ مزعج ومتعب لمن يعيش معي، وعندي وسواس قهري بما يخصّ الترتيب والنّظافة.
لا أعرف سبباً لحبّي للكتابة، أخال أنّ الكتابة حالة شهوة لا تعرف الإشباع، ولا حدّ لها، ولذلك لا أجد نفسي في جنس أدبي بعينه، فأنا أكتب الرواية والقصة القصيرة والنّص المسرحي والشَعر والدراسات النَقدية، وأجد نفسي فيها جميعاً؛ إذ هي حالات تعبيرية ،ودفقات شعورية إبداعية خرجت وفق الشكل الذي ناسبها،وواءم خصوصيتها.
أنّا مخلوقة من الحبّ ،وهو حلمي الملحّ، لا أستطيع أن أتعامل مع أيّ شيء إن لم أحبّه، ولا أستطيع أن أتخلّى عن أيّ شيء أحبّه،لذلك فأنا رتيبة فيما يخصّ أثاث البيت والأشياء القديمة، ولا أحتمل فكرة تغيرها أو تجديدها ، قلبي ضعيف جدّاً أمام من أحبّهم، مشاعري جيّاشة ومتأجّجة بشكل دائم، وذلك أمر متعب ومرهق لا سيما عندما يصبح من الواجب ضبط تلك المشاعر، فكرت في العشق ألف مرّة، وحضّرت له الكؤوس والهدايا وأطواق الياسمين، وبحثتُ عنه طويلاً، وصرّحت دائماً للأهل والأصدقاء بأنّني أبحث عنه،و انتظرته،و تخيّلته يأتي من كلّ الجهات، وتساءلتْ طويلاً كيف سيكون من سأحبّ؟؟!! لكنّه ما جاء بعد، على الرّغم من أنّني ادخرتُ له أشواق العمر وحكايا العشق ولحظات التمنّي… وما أزال أنتظره.
آهٍ كم عنّاني وأعّانني ذلك السّلطان السّحري الذي اسمه الحبّ…
فهو كلمة البداية…
وهو كلمة النّهاية…
وما كنتُ لأكون لولا الحبّ
وأمّي هي الحبّ…
والكتابة حبّ يتراقص كلمات؛ لترسم ناسك الصومعة…خازن العشق الأكبر…
صاحب كلمة العشق الكبرى…
أقول قبل القول وبعده؛
لله درّ سفينة العمر التي لا ترسو في ميناء ،ولا تهنأ بمرفأ، حققتْ الكثير مما حلمت به، وهي أحلام في جلّها تدور في فلك الكتابة والإبداع والإنجاز الأكاديمي والسّلام وهناء البشرية .ولكن الحلم الحقيقي لا يزال يعدو امامي في البعيد…وأنا وراءه اعدو دون توّقف.فهل أدركه؟ ربمّا
شهادة إبداعيّة لسناء الشّعلان (بنت نعيمة) عن رواية (أعشقني)
عنوان الشّهادة:
التّجريب :مغامرة البحث عن فضاء للحياة أو الموت
ليس التّجريب سوى مغامرة جريئة للبحث عن فضاء للحياة،وقد ينقلب عندما يفقد أدواته التي تصنع نجاحه الذي يشرعن وجوده إلى مساحة للموت بهدوء أو بصخب مزعوم لا يعوّل عليه ليكون مجرد نقوش حرفيّة على واجهة نصب قبر كان اسمه رواية أو أيّ عمل إبداعيّ ابتكاريّ آخر؛ولذلك عندما يشرع المبدع في رهان التّجريب فإنّه يقايض أحلامه وأفكاره وجموع خبراته ودفقات شعوره بحالة خاصة من تلبّس الفكرة وإعادة تشكيلها بعصا سحريّة لتملك قدرة الإدهاش والإبهار والبوح والتّأثير والتّفعيل، ولا يتحقّق ذلك إلاّ عبر القدرة على خلعها من سياقها التّقليديّ،وخلخلة رتابة إدراكها لنقلها إلى مستوىً آخر من التّشكّل والإدراك والوعي بها.
رواية ” أَعْشَقُني” وُلدتْ عندي في حالة غضب وانزعاج،وهي دون شكّ لم تنحرْ هذا الغضب وذلك الانزعاج،ولكنّها نقلتهما من حالة العصاب والكبت إلى حيّز الوعي والنّقد والتّشكيل والتّحرر والرّفض،هي صنعت من قهري حالة إبداع إداركيّة تنطلق من العلم والعقل والقلب لبناء عالم يوتيوبيّ منشود يفارق العالم المنكود الذي اجتهدت الرّواية في التّمرد عليه،وعدم الانصياع لإكراهاته.
كنتُ غاضبةً بحقّ من البشريّة الحمقاء التي تتصارع دون توقّف،من البشر القساة اللامباليين،من حمّام الدّم المشرع في كلّ مكان بزخم دماء الأبرياء،من مشهد الحياة دون كرامة،من جداريّة الموت دون ونيس،من سلطة الفاسدين،ومن قهر المستلبين،من إعدام العشق،كنتُ حانقة على المتخمين كلّهم،وثائرة باسم الجائعين والمحرومين والمنكدين جميعهم،كنتُ في حرب ضدّ الحرب،وفي صرخة ضدّ جعجعات الكاذبين،كنتُ أريد أن أقول لا حتى ولو كلّفني أن أنجز عملاً روائيّاً يعدم نفسه عند أوّل مفترق كتابة،كنتُ أدرك تماماً وأيقن في لحظة إيمان لا تعترف بالشّك أنّني أقامر على طاولة الفنتازيا بكلّ ألآمي ومعاناتي،وأنّني أراهن على الاستشراف العلميّ لرسم مستقبل ممكن في طور بناء عالمي يوتيوبيّ يخلص للحظّة الحبّ التي أؤمن بها خلاصاً للبشريّة في ظلّ أزمة البشرية الكبرى،وهي غياب الحبّ؛فالبشريّة في حالة إفلاس روحيّ وشعوريّ،ولذلك فهي تبتدع حرفتي الموت والكره،وتتنافس في صنع الفحش والإيذاء،وتتذرّع بشتّى الذّرائع لتكسو نفسها بالسّلاح والبطش والتسّلط،وماهي في الحقيقة إلاّ منكوبة في قلبها العاصي الذي لم يتعلّم-بعد- أن تحبّ.البشر في حاجة إلى درس إنسانيّ مخلص في الحبّ،وهو خيارهم الأخير قبل أن يُبادوا وينتهوا.
ومن هذا المأزق بالتحديد كانت ولادة رواية” أَعْشَقُني” التي فارقت منذ البداية الشّكل التّقليديّ لعتبة الرّواية،واختارت أن يكون العنوان جملة فعليّة كاملة القلق والدّيناميكيّة والدّراما،وبعيدة البعد كلّه عن السّكون والاستسلام والبتر،بل هي حالة قلق موصول،كما هي حالة فعل مستمر،لا يقبل البتر أو القتل أو الاجهاض،إنّه فعل موصول لا ينتهي، إنّه يصلنا بحالة التلبّس والاستلاب الاختياريّ الذي يعيشه بطل الرّواية” باسل المهري”،وهو حالة إلباس مقصودة في دلالة العنوان قابلة لجعل المتلقي يقع في فخّ الخيارات والاحتمالات والتأويلات ،ليكون أسير الفضول والقلق،لتسهل قيادته إلى عالم الرّواية بقوة التوّهم والتّوقّع والرّكض خلف التّفسير وحلّ رموز العنوان.
لقد قصدتُ أن أجعل من عتبة عنوان رواية ” أَعْشَقُني” مصيدتي لفضول القارئ،وتمتمتي السّحريّة من أجل أن أقوده نحو عالمي الرّوائي المنساح في هذه المساحة الغاضبة لأجل البشريّة التي فقدت زمامها،واستسلمت للفناء بأعتى وسائل الفتك والإرهاب والإبادة.ولم أبالِ بذلك التّأويل الأوّلي المفترض الذي يقود الكثيرين إلى الظّن أن “أَعْشَقُني” هي جملة فعلية آمرة،وأنّ كاتبة الرّواية أو بطلة الرّواية في أحسن التأويلات وأذكاها تستجدي العشق من المّارة والسّيارة وأرباب المشاعر المجّانية،وإن تفاءلتُ بأن ينتبه النّبهاء إلى أنّ عنوان الرّواية هو جملة فعليّة تبدأ بفعل مضارع،وأن العاشق والمعشوق واحد،وأنّ فكّ أحجية هذه الحالة الملبسة من العشق الموجّه نحو الذّات تكمن في الانقياد لرحلة “باسل المهري “في جسد ” شمس” الملقّبة بالنّبيّة،وفي نفسه التي تكابد أزمة فكريّة وإخلاقيّة وإنسانيّة وعقائديّة ونفسيّة.
وافتتاحيّة الرّواية هي بطاقة التّعريف السّرية لهذه الرّواية،وهي شكليّاً أقصوصة من يوميّات” شمس”التي حُرّزتْ بعد اعتقالها،وحُفظتْ تحت بند “سرّي” بعد مصادرتها لحساب المخابرات المركزيّة لمجرّة درب التبّانة،فمن يقرأ هذه البطاقة،ويتأمّل في قول “شمس” يدرك أنّه أمام ثنائيّات معقّدة تحتاج إلى تفكيك وتحليل وإعادة تركيب: ” من يوميّات امرأة عاشقة في مجرّة درب التّبانة :
” وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق،أنا لستُ ضدّ أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والزّمان،ولستُ معنية بتفكيك نظرية إينشتاين التي يدركها ،ويفهمها جيداً حتى أكثر الطّلبة تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في أيّ مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصّغير،ولكنّني أعلم علم اليقين والمؤمنين والعالمين والعارفين والدّارين وورثة المتصوّفة والعشّاق المنقرضين منذ آلاف السّنين أنّ الحبّ هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا،وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات،وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكترونيّ البشع،وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب،وفلسفة انعتاق لحظة،أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل،أنا نبيّة هذا العصر الإلكترونيّ المقيت،فهل من مؤمنين ؟ لأكون وخالد وجنينا القادم المؤمنين الشّجعان في هذا البُعد الجميل. خالد أنا أحبّكَ،وأحبّ جنينا كما ينبغي لنبيّة عاشقة أن تحبّ…”
فبهذه البطاقة التّعريفيّة المنتزعة من يوميّات “شمس” ندرك أنّنا أمام عاشق ومعشوق ولعبة حياة ولغز اسمه طاقة البُعد الخامس،ومن هذه اللّحظة أعلن أنّ روايتي هي انتصار للحبّ في عالم استشرافيّ مفترض مصوغ وفق معطيات الخيال العلميّ التي تتعامل مع معطيات أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والّزمن،ثم تفترض وجود أبعاد أخرى لم يصل العلم بعد إلى تحديدها،وتقيّدها بمعادلات علميّة مؤكّدة،ومن هنا تتشكّل فرضيّة البُعد الخامس في هذه الرّواية التي تعتقد أنّ هناك طاقة جبّارة كامنة في القلب البشريّ وفي مشاعره الصّادقة المحبّة،وأنّ من الممكن تحويل هذه الطاقة الشّعوريّة إلى طاقة فيزيائيّة عملاقة بشرط أن تنبثق من قلوب العشّاق وفق معطيات محدّدة وشروط علميّة معلنة .
ومن عباءة الخيال العلميّ استطعتُ أن أحلّق نحو الحريّة بكلّ تمرّد دون أن يعوقني عائق نحو تصوير مستقبل البشريّة المفرغ من الإنسانيّة والمشاعر والسّعادة،وهو مستقبل متوقّع فرضيّاً وعلميّاً إن استمر الإنسان في لعبته الجهنّميّة مع ذاته،وهي لعبة تحويل نفسه إلى آلة عاملة منتجة مستلبة لا تحلم بحرّية أو إبداع أو خروج عن النّسق،وفي هذا المستقبل المتوقّع توبيخ للإنسان الذي أضاع قلبه ووجدانه وضميره وحلمه،دون الانتقاص من قيمة العلم وجدوى الآلة ودورها في خدمة الإنسان.
فهذه الرّواية هي رواية فنتازيا الخيال العلميّ التي ترسم حياة الإنسان المستقبليّ ضمن إرهاصات العلم المحكومة بتوقعات علميّة قابلة للتحقّق،وفي الوقت نفسه تنحاز إلى رصد ردود فعل الإنسان في عوالمه المستقبليّة،وتسمح لنفسها بخلق فجوات حدثيّة غير قابلة للتّسويغ بمنظور العلم،ولكنّها شحطات مضافة إلى توقعّات العلم لإبراز الأزمة الرّاهنة والمتسقبليّة للإنسان في ضوء النّتائج المترتّبة المرسومة في مشهد المستقبل التي تدفع الإنسان إلى إعادة النّظر في سلوكه وواقعه،ويحذّره من مآله،ويحرّضه على تعديل مسيرته بغية النجاة من مصيره المأساويّ المنتظر الذي يحذّرنا الخيال العلميّ منه.
وإن كان الخيال العلميّ في ظلّ إفلاس المجتمعات العربيّة واستلابها في الوقت الرّاهنة لم يعد مطيّة الأدب نحو الإنسان؛لأنّه حلم الأمم التي تنتج الحضارة والعلم،فإنّ فنتازيا الخيال العلميّ تهرب من أزمة إنتاج الحضارة إلى أزمة إعادة إنتاج الإنسان وتأهيله،ولذلك فإنّ رواية “أَعْشَقُني” تتحايل على تقديم معادلة علميّة محدّدة للطّاقة المفترضة في البُعد الخامس بأن ترسم عوالم مفترضة كاملة في عام 3010م حيث الإنسان يعيش في جغرافيا شاسعة تمتدّ عبر كواكب مجرّة التبّانة،ويتنقّل عبر مراكب فضائيّة،ويعيش في منظومة استلابيّة تحوّله إلى مجرّد رقم لا إرادة له ولا قرار،فيعيش ويتزوّج ويتناسل وفق إرادة هذه المنظومة التي يحكمها الأشرار والرّجال الآليّون،حتى أنّ هذا الإنسان ينقطع عن ماضيه وإرثه وإنسانيّته وفطرته،فيهجر ربّه وقلبه وجسده،ويغدو مفرغاً من كلّ شيء خلا الطّاعة العمياء لنظام الآلة وسيطرة المنظومة التي تكرّسه لأجل خدمتها وثرائها وسلطتها.
التّجريب عبر الخيال العلميّ وامتطاء الفنتازيا أتاح لي أن أنقل كوابيسي وكوابيس البشريّة القلقة على مصير الإنسان إلى حيوات حقيقيّة دراميّة تشهد مآل الإنسان ضمن توليفة منساحة رحبّة تنبع من اليوتوبيا الخياليّة والكوميديا السّوداء والحكايات الشّعبيّة والخرافات والموروث الإنسانيّ وفنون الإرعاب والإرهاب وأكاذيب المخيال وقصاصات الأمنيات وشطحات التّفكير وتهويمات الخيال وجذاذات الحلم والكوابيس ومبالغات العقل وإسقاطات النّفس وفلتات الوعي ومزالق اللاوعي وغابات التّداعي الحرّ للأفكار وفوضى الأفعال اللاإردايّة والقسريّة والوسواسيّة.
وفي ظلّ الخيال العلمي رسمتُ عالماً مخيفاً إن حكمه العقل،وقادته النّفعيّة،وغاب عنه القلب،وهجرته المشاعر،بل بالغتُ في تقريب صورة هذا الوحش الذي يغدوه الإنسان دون قلبه،حتى تغوّلت ملامحه المخيفة البائسة،فما عاد يعرف الجنس والحبّ و الرّب،وأصبح مجرّداً من كلّ سعادة،يعيش أوقاته دون هدف أو بغية،مفلساً إنسانيّاً حدّ الانقراض الحتمي.
وهذا الإنسان المسخ في عوالم رواية ” أَعْشَقُني” هو صورة الإنسان المستقبلي في عام 3010م بعد أن يغدو قُدماً في ظلمه وسلبيته ونفعيته،وهو ذاته المادة التي سوف أشكلّها لتنتج “باسل المهري” المرتدّ عن ظلمه بقوة الحب،وهي التي تنتج ” خالداً ” و “شمساً” اللذين يرسمان طريق الثّورة نحو تحرّر الإنسان من ظلمه،وهما من يكونان نبيّي الأخلاق والشّرف والمبادئ والعدل والإخاء في عالم سقوط القيم،ورحيل الضّمير والمبادئ.
لقد كان حلمي هو الانعتاق والتّحرر من تابوات المجتمع التي تقمع الفكر والتّقدّم والإبداع وتتأمر على الأفراد المجدّين المتميزين،وتتواطأ مع الكذب والفساد والاستلاب والقمع،وتصلب الفكر الحرّ الطّلائعيّ الرّياديّ على خشبة التّجاوزات،وتعدمه بحبلّ المحدّدات والأعراف وقبولات الجماعات والمجتمعات والأفراد والملل والنّحل.وكانت هذه الرّواية مطيتي نحو حريتي وانعتاقي الذي أراه في انعتاقاً للمظلومين والمقموعين جميعاً.
“باسل المهريّ” في هذه الرّواية انعتق من قهره بقوة حبّه لـ “شمس”،واختار أن يكون حبيساً في جسدها إلى الأبد كي يحمل جنبيها “ورد” في أحشائه،ويلده في عالم آخر،و”شمس” انعتقت من قهر سلطة حكومة مجرّدة درب التبّانة عندما أعلنت ثورتها على الاستلاب القهر،وقادتْ ثورة لا تعرف هوادة على الشّر والأشرار حتى آخر لحظة من عمرها،و”خالد” تحرّر عندما حرّض “شمس” على ثورتها،وآمن بحقّها في امتلاك خياراتها،وحلّ لغز طاقة البُعد الخامس وإنتاجها،والبشريّة كلّها تحرّرت عندما آمنتْ بحقّها في الحريّة،وعرفتْ طريق إنتاج طاقة البُعد الخامس عن طريق الحبّ الحقيقي.
والثّورة التي كانت هي مضمون هذه الرّواية وهاجسها،هي كانت مسوّغها ودافعها نحو التّحرّر من الشّكل التّقليديّ للرّواية،فلا يمكن أن نتحدّث عن الثّورة إلاّ بالثّورة،لذا فقد شُكّلت الرّواية كما يشاء الانعتاق،مادام السّرد قادراً على النّهوض بهذه الرّواية؛فكانت الفصول الثّمانية المكوّنة للرّواية هي استعراض للأبعاد ومعادلات رمزيّة للطّاقة في البُعد الخامس،وهي -دون شكّ -تصلح لأن تكون إشارات علميّة إنسانيّة تشابه الإشارات الصّوفيّة التي تشير إلى المبتغى،وتقود الرّاغب نحو الطّريق،وهي تُفسّر وفق فهوم المتلقين،وتُدرك على قدر تأويلات المريدين.
والزّمن هو مَنْ كان البطل الحقيقي في الرّواية،ولذلك ساح السّرد في ثنايا هذا الزّمن،ودار في عوالم الماضي والحاضر والمستقبل دون حواجز،وكان صوت الرّاوي العليم هو المسيطر،ولكنّه كان يسكتُ عندما تعلو إرادة أبطال الرّواية،ويخنقهم الضّيق أو تتأجّج مشاعرهم،فنسمع أصواتهم وهم يتناوبون على السّرد،ويتقاسمون أدوار دفعه نحو الحدث باقتدار دون تدخّل الرّاوي العليم،ولا يعطون زمام السّرد من جديد له إلاّ عندما يتركون له دور الإحاطة والوصف التي لا تنبغي لهم،وهم الشّركاء في صنع الحدث،لا الشّاهدين عليه فقط.
وهؤلاء الأبطال الورقيون وهبوا أنفسهم حقّ الانتقاء ما دامت مساحة السّرد والتخييل تسمح لهم بذلك،وأنا كان يسعدني أن أدخل مهم في لعبة الحريّة،ولذلك فقد مكّنتهم من حريّاتهم في التّعبير،فقبلت بأن يسردوا بحريّة،ونقلت حواراتهم الدّاخليّة مع أنفسهم،وتجسّست على أحلامهم وكوابيسهم وكوامن أنفسهم،ودونتها في الرّواية،ثم قبلتُ بأن أتواطأ مع إرادة ” شمس” و”خالد”،وسمحت لهما بأن يسردا قصتهما عبر تقنية اليوميّات التي كانت تكتبها “شمس” على أمل أن تقرأها ابنتها “ورد” في يوم ما في المستقبل عندما تكبر.
وهذه اليوميّات أصبحت فضاءً للفعل والحدث والفكرة،كما كانت مادّة مرنة قابلة للتّخصب بأشكال السّرد،فكانت هناك الرّسائل الوجدانيّة المتبادلة،وكانت بنية الحكي المتوالدة المبينة على شكل محدّد له بداية وعرض ونهاية مستلهمة شكل حكايا ألف ليلة وليلة؛فهي تبدأ دائماً برسالة من” خالد”،وتنتهي برسالة منه أيضاً،في حين تتوّلى “شمس” سرد حكايتها مع المجتمع والحبّ والعشق في منتصف اليوميّات،كما تختمها بحكاية خياليّة ذات علاقة وثيقة بمجريات الأحداث،وتعقدها دائماً تحت جملة “تقول حكاية النّوم ياورد الجميلة” في حين كان “خالد” يوقّع رسائله لـ “شمس” بـ” أشتهيكِ”،كما كان هناك الشّعر والوصايا المعقودة جميعاً تحت تواريخ مستقبليّة في التّاريخ المفترض،وهي تواريخ ذات إشارات صوفيّة؛إذ هي مفاتيح لغزيّة تفتتح كلّ حدث،وترتبط بمضمون يوميّات “شمس” كما تقود “باسل المهري” إلى خياراته في هذه الرّواية.إلى جانب أنّ اللغة التّقريريّة ذات البُعد الصّحفي قد وجدت مساحة لها في المواطن التي كانت ترصد حركة الإعلام والمجتمع إزاء الثّورة و”شمس” في الرّواية.
وكي لا تنتصر إرادة أبطال الرّواية على إرادتي الشّخصيّة؛فقد انتصرتُ لنفسي بالسّرد الموازي الذي يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل في هذه الرّواية،فبينما كانت “شمس” تسرد عبر يومياتها،كان صوتي يسرد عبر النّص الموازي الذي يسرد حكاية “باسل المهري” مع جسده الأنثى الذي حصل عليه بعد عملية جراحيّة معقدّة تجريبيّة لفرضية أن نقل العقل البشري من جسد إلى آخر ممكن في نظر العلم،وهذا ما حدث حقّاً في الرّواية،فقد نُقل عقل “باسل المهري” إلى جسد الثائرة “شمس” التي أمر بقتلها بعد أن اعتقلها بوصفه عسكريّاً موكلاً بالقضاء على الثّوار الذين تقودهم “شمس” المعروفة بالنّبيّة،ولكن المفارقة كانت في أنّ الثّوار دبّروا له كميناً،وفتكوا به في يوم مقتل زعيمتهم” شمس”عندها قرّر الأطبّاء أن ينقلوا عقله الذي لا زال حيّاً إلى جسدها،وهذا ما كان.
وهذه المفارقة هي الأولى في سلسلة المفارقات في هذه الرّواية؛فـ”باسل المهريّ” يدخل في مخاضات نفسيّة وفكريّة قاسية عندما يجد نفسه أسير جسد امرأة هو من قتلها،ثم يقرّر أن يتعرّف عليها عبر دفتر يومياتها،وهنا تكون الثّورة والانعطافة المركزيّة في حياته وفي الرّواية،فيؤمن بعد ذلك بثورة “شمس”،ويقع في عشقها،ويتبنّى أفكارها عبر أفكارها التي يقرأها في دفتر مذكراتها،وأخيراً يقرّر أن يبقى أسير جسدها الذي يعشقه،ويرفض أن يغادره إلى جسد رجل آخر،ويقرّر أن يحتفظ بحملها،وأن ينجبه ليكون ثائراً جديداً،ويلخّص أزمته في عشق المرأة التي يسكن جسدها بعد أن قتلها في قوله: ” يا لجمال قدر يقودني إلى أن أعشقها!! أقصد أعشق جسدها،بل أعشق روحها وذاتها،من الصّعب أن أشرح لنفسي هذه القضية الملبسة،فأنا أعشق امرأة هي أنا في واقع الحقيقة الملموس،وأنا إيّاها في السّياق المنطقيّ نفسه،ولكنّ الحقيقة أنّني رجلّ يعشق امرأة في ظروف عجيبة،إذ هو ماديّاً مفقود،وهي روحانيّاً مفقودة،ولكن كلانا في هذه اللّحظة في ذات واحدة،هي إيّاها وإيّاي،إذن أنا أَعْشَقُني،ولذلك فأنا أعشقُها.لابدّ أنّ هذه القضية أكبر من فهمكِ الصّغير ياورد،يوماً ما ستكبر،وتفهم معنى ما يحدث،وستفهم دون غيركَ من البشر معنى كلمة أَعْشَقُني،أنا ياوردي أَعْشَقُني،أتعرف معنى ذلك؟معناه أنّني أعشق أمّكَ شمس بامتداد لايعرف نهاية،فهل تغضب؟تستطيع أن تركلني بقدر ماتشاء إن كنتَ حانقاً علي،ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أنّني أَ…عْ…شَ…قُ..نِ…ي…”
لكن “باسل المهري” في هذه الرّواية لم يجبْ عن سؤال البشريّة المفترض المقبل في ضوء الخيال العلميّ الذي يرهص بإمكانيّة أن يتقدّم الطّب إلى درجة نقل الدّماغ البشريّ من جسد إلى آخر.فهل البشريّة ستسعد بهذا الفتح العلميّ الطّبيّ أم ستشقى؟ وهل سيكون الموت أرحم من أن يجد الإنسان نفسه بعد عملية جراحيّة عالقاً في جسد آخر؟ أم أنّ الحياة أثمن من أيّ تضحيات؟ هذه الأسئلة الحائرة اللاهثة لا تجد إجابة في روايتي؛لأنّني شخصيّاً لا أملك إجابة لها،ولكنّ “باسل المهريّ” يؤكّد أنّ التّجربة صعبة ومؤلمة،وينقل إلينا مكابداته في هذه التّجربة؛إذ أنّه الإنسان الأوّل الذي يعابن هذه التّجربة،ويدخل في تهويماتها وشطحاتها.
ولكن ما يعني سناء شعلان الرّوائيّة من هذه الشّطحة العلميّة المفترضة ما تتوافر عليه من تخييل وأسئلة إبداع ومساحات توقّعات وميادين جدال؛فعبر هذه الشّطحة انتقل عقل “باسل المهري” إلى جسد “شمس”،وبدأت مغامرته الصّغرى مع عشقها،كما بدأت مغامرته الكبرى مع أسئلة الوجود والحياة والموت والتّحرر والإنسانيّة والمدنيّة والخلود والسّعادة والجسد والنّماء؛فهذه الشّطحة قادت الرّواية إلى البحث عن سرّ سعادة البشريّة الذي لا يمكن إلاّ أن يكون في الحبّ،ولاشيء غير الحبّ.
التّحدي الوحيد لسناء شعلان الرّوائيّة كان في توصيف العلم بغير لغته،فما كنتُ أرضى أن تكون روايتي سجالاً علميّاً بلغة البحث العلميّ الرّصين،ففي هذه الحالة ستكون جنازة بحثيّة مهنيّة مكانها أدراج معامل البحث العلميّ،أو صبّورة تعجّ بمعادلات علميّة مغلقة على الفهم،وما كان هذا مبتغاي في روايتي،بل أردتها أن تكون أداتي لانتقاد هذا العالم،ووسيلتي نحو الثّورة عليه،وطريقتي للتحذير من غيّ الإنسان،وقيثارتي الأزليّة لأقول: أحبّ الله،أحبّ البشر،أحبّ الخير،ما أحوجنا إلى الحبّ!
ومن هذا المنطلق سهل عليّ أن أخلع لغة العلم حيث الرّصانة والدّقة والقصديّة والوضوح،وانسرحتُ أسدرُ في اللغة الشّعريّة المحملّة بالتّرميز والإشارات،وتقمّصت أشواق العاشقين،واستعرتُ لغتهم وأشعارهم،ونقلتُ رسائلهم،وسردت حكاياهم،وكان الوصف هو حليفي في اقتحام العوالم المفترضة في الزّمن المستقبل؛إذ كان النّاقل الأمين للعوالم التّخيليّة التي يفترضها العلم،ولا يمكن أن ينقلها إلينا،أو ينقلنا إليها إلاّ عبر اللّغة التّوصيفيّة التي تستعير من إمكانات الموروث والأشكال الفنيّة المتعدّدة لأجل أن تخصّب نفسها بممكنات الوجود،وأشكال المكان والزّمان والشّخوص والأحداث،بل هي من تكون البطل الحقيقي للحبكة،وتقود التأزّم،وتشكّل به مسيرة السّرد.
” أَعْشَقُني” ليست رواية الخيال العلمي فقط،بل هي رحلتي الخاصّة مع التّجريب الذي يبحث عن فضاء للحريّة والانعتاق،بل هي الفضاء الذي مارست الحياة فيه،وانتصرت به على الموات.” أَعْشَقُني” هي طريقتي الخاصة التي فارقت بها الطّرق جميعها،هي مآلي في رحلتي المحمومة في البحث عن شكل روائي جديد يكسر الرّتابة،ويمثّل نفسه بنفسه،ويخطّ به طريقه نحو تشكيل العالم الرّوائيّ المكان الأرحب لرسم عوالم كاملة خارج العوالم الحقيقيّة.
هي طريقتي لقول إنّني منزعجة وغاضبة،هي طريقتي التي أقصّ بها حلمي، هي حساسيتي نحو نفسي ونحو البشر ونحو الوجود،هي طريقتي في رسم نفسي في نسيج وحده،هي قلقي وشكّي ويقيني،هي مقولتي في مرجعياتي وأولوياتي،هي رؤيتي التي أطبع العالم بها.
“أَعْشَقُني” هي صرخة الإنسان الرّافضة لاستلابه،هي اعترافه بعشقه دون خوف من مجتمع لا يخجل من الكره، ويؤثّم الحبّ،”،”أَعْشَقُني” تنقذ البشريّة المستقبليّة من المقولة الإلحاديّة الشّهيرة لجرترود شتاين:” “ليس هناك جواب ، ولن يكون هناك جواب ، ولم يكن هناك جواب قط ، وهذا هو الجواب .
“أَعْشَقُني” هي صوت شمس يصدح “”عندما يحضر خالد،تغيب الأشياء كلّها؛فهو إله الحضور الجميل”،هي صوت خالد يقول بحكمة هادرة : ” إنّ القلب يتّسع حتى يضيق العالم،إنّ القلب يستطيع أن يحمل بين
عرائشه الصّور الجميلة كلّها”،هو صوت “باسل يناجي ربّه قائلاً بضراعة وتوسّل:” ياربّ،ساعدني”.
أَعْشَقُني” هي كلماتي السّحريّة التي صنعت “خالداً” من العدم،وجعلته حقيقة نابضة إلى الأبد، فأفرحتني،وأحيت الأمل في كلّ قلبٍ ينتظر حبيبه المجهول الذي رسمه بألوان قوس قزح واشتهاء الحرمان،فوافه دون ميعاد،وطبع قبلة فرح أزليّ على روحه الحزينة الكابية.
“أَعْشَقُني” هي تمرّدي،ولذلك هي الأجمل في تجربة سناء شعلان الإنسانة،وهي بصمة التّجريب الجريئة في رحلة سناء شعلان الرّوائيّة.وطوبى للتّجارب والرّحل في محراب العشق،وطوبى للتمرّد الذي لايعرفه سوى البشر الحقيقيين.
شهادة إبداعيّة لسناء الشّعلان (بنت نعيمة) عن روايتها (أدركها النّسيان) بعنوان: هل ترونني؟
هل ترَوْنَني؟
إنّي أراكَم
هذا هو مضمون لقائنا اليوم؛ من يرى من؟ وكيف يرى؟ ومن سمح لمن بأن يراه؟ وماذا أورثت الرّؤية لصاحبها؟ أتراها امتداد للجملة السّرديّة التّراثيّة والابتدائيّة والختاميّة في آن التي تقول “ونظر نظرة أورثته ألف حسرة”؟ أم هي نظرة مفتوحة على القلب والإدراك والرّؤية والتّبصّر؟
عندما أقول إنّني أراكم، فهذا يعني أنّني أريد أن تلقوا القبض عليّ في مكان ما بكامل تمرّدي ورفضي وغضبي وبوحي وخروج عن السّرب الأعوج المستلب الذي لا يستطيع أن يطير بعيداً عن مساحات الاستعباد والاستلاب والتّدجين، وأفضل مكان كي تلقوا القبض عليّ فيه هو فضاء الرّواية؛ حيث هذا الحيّز هو ملكي بالكامل دون منازع، وهو وثيقتي السّرديّة لأقول بها للعالم: أنا هنا، وأنا أقف أمامكَ متحدّية عارية حافية معدمة إلاّ منّي ومن عظيم رفضي؛ ولأقول لسكّان هذا الكوكب المأفون: نعم، أنا طفلة رديئة الطّاعة، مستحيلة الانهزام، متأبّية على الصّمت والاندثار، متغوّلة على الخوف، تستطيع عيناها أن تبتلعان مجرّة، أنا بهاء، أو بهاء أنا، لكن من أنتم؟
أنا غاضبة جدّاً حتى الانفجار؛، ولذلك كتبتُ هذه الرّواية المستحيلة، أنا رافضة للاستلاب بأشكاله قاطبة، ولهذه كتبتُ هذه الوثيقة السّرديّة التّأبينيّة لواقعنا، أنا مصمّمة على أن أكتب التّاريخ بصدق كما أعرفه، وأن أكون شاهدة عصر رغم أنف التّزوير والتّلفيق والكذب، ولذلك قرّرتُ أن أكتب هذه الرّواية من منطلق أنّ المبدع المتمرّد المتوحّد مع نفسه في عالم متوحشّ عندما لا يجد من يروي له، يروي لنفسه في حوار داخليّ معها يوثّقه على الورق كي يمنع كلماتِه من الموت، وكي يكتب لها الخلود أكثر من فترة بقائه القصير في هذا الكوكب الملغز المتناحر؛ فشهوة الحكي والسّرد هي شهوة مرتبطة بإحساس الإنسان بذاته، وبانتمائه للوجود، بل لانتماء الوجود له.
أجدُ صعوبة في الحديث عن رواية “أدركها النّسيان”؛ لأنّني كتبتُ فيها كلّ ما أردتُ قوله بطريقة بطليها بهاء والضّحّاك اللّذين كانا أجرأ منّي في البوح وسرد قصّة حياتهما، بما فيها من ملحميّة موجوعة تدين القوى الاستبداديّة، وترفض الانسحاق تحت قواها؛ فهما استطاعا أن يعرّيا جسديهما أمام الجميع ليعرضا ما علق بهما من أدران وعذابات، دون أن يخوّفهما سوط الجلاد الذي التهم الكثير منهما.
لا تبحثوا عنّي في هذه الرّواية؛ فأنا لوّحتُ لكم بكثير من الخدع لأسرقكم إليها، ولتتورّطوا بها، وبعد ذلك لن تجدونني هناك، على الرّغم من وجودي فيها، بل عليكم أن تجدوا أنفسكم وعوالمكم لتفكّوا أسرار هذه الرّواية، وتعرفوا كلمتها السّريّة، وتنزلوها على الواقع، وتسقطوها على قبائحه، وبخلاف ذلك لن تكونوا أكثر من سيّاح من النّوع الغرّ قليلي الخبرة الذين يسيحون في أرض العجائب مغمضي العيون، صمّ الآذان.
من أعجب طرائق المتلقّين للفنّ الرّوائيّ أنّهم يصمّمون على أن تكون رحلاتهم في الرّوايات بمنطق قاصي الأثر في الصّحارى ومصطادي الوحوش في الأدغال؛ فمهم يصمّمون على أنّهم قادرون على أن يعدموا الالتباس، وأن يصلبوا الخوف على قامة الوهم، ولذلك يسعون إلى أن إقناع ذواتهم بأنّهم قد ألقوا القبض على الرّوائيّ عارياً في روايته، يمارس فاحشة السّرد علناً مع سبق الإصرار والتّرصّد، ويفوتهم أن يجدوا أنفسهم في رحلهم السّرديّة الوهم.
وكي أريحكم، وأجيب على سؤالكم المقدّس المحاصر لي: هل أنتِ موجودة في هذه الرّواية؟ فأقول لكم بكامل قواي العقليّة وإرادتي دون ضغوط أو تأثير أو هذيان: نعم، أنا فيها، والضّحّاك فيها، وأنتم فيهم، وهم فيها، الجميع جبراً في هذه الرّواية، هي مجرّة، بقدر متاهتها وتصميمها على أن تنطق بأوجاع المكمّم أفواههم قسر إرادتهم.
بهاء بطلة الرّواية ليستْ وحدها من أدركها النّسيان مرضاً ورحمة بها، فأنقذها من أن تتذكّر ما حدث معها في حياتها المتغوّلة على فقرها ويتمها، وليست وحدها من وجدت نفسها تتوسّل بالموت كي يخلّصها من الحياة التي تبطش بها متعاظمة على ضعفها، ليست وحدها من خرجت من مؤسّسة الميتم حيث عاشت لتسحق في ميتم الحياة، ليست وحدها من أُغتصبت جسديّاً وفكرّياً وروحيّاً مرّة تلو الأخرى، ليست وحدها من مارست الدّعارة قسراً كي تبقى على قيد الحياة، ليست وحدها من قرّرت أن تستسلم للسّرطان كي يخلّصها من ذاكرتها المفعمة بالوجع والرّذيلة والسّقوط، ولكنّها وحدها من وجدت الضّحّاك ليساعدها، ويخلّصها ممّا هي فيه، وأن يرى في سقوطها جناية كبرى عليها، لا إدانة لها.
من هو الضّحّاك سليم المحبّ الفارس الذي حالفه الحظّ ليلجأ إلى عواصم الثّلج هرباً من الشّرق المُحرّق المتداعي جداراً خلف جدار؟ أين يقع الميتم؟ من هي مديرته المنداحة في الرّذيلة التي تنكّل بالأطفال اليتامى؟ أين هو هذا الوطن المخلوع الخليع الذي تاه في الضّياع، وتحوّل إلى مصّاص دماء لا يرتوي من دماء أبنائه؟ أين يقع المعتقل الذي يلوك الأحرار، ويلفظهم عاجزين مقهورين ناسين منسيّن؟ من هي بهاء المسحوقة المنكودة الحمراء الجميلة التي جنى عليها فقرها ويتمها وضياعها ومواهبها المتعدّدة في عالم ذكوريّ خسيس لا يبغي إلاّ جسدها وحمرتها اللذّيذة؟ من هو أفراح الرّمليّ المعلّم الفاسد العجوز الذي كان يغتصب فتيات الميتم؟ من هو وفا ذيب المثقّف الشّريف في زمن قذر لا يعطي إلاّ على قدر السّقوط؟ من هو ثابت السّرديّ المناضل المدافع عن وطن مسلوب حتى الاستشهاد؟ من هو يراع طرب المغنّي الخليع الذي يتاجر بالوطنيّة ومعاناة النّاس؟ من هو الدّكتور الشيّخ عيسى الإقباليّ المتاجر بالدّين والأعراض والمواقف والمبادئ والأنساب؟ من هو صلاح خير الدّين النّورانيّ العالم الشّرعيّ النّقيّ رغم نجاسة المحيط به؟ من هو فوّاز أبو صفرة الغريب الانتهازيّ الذي قرّر أن يبيع المرأة التي يحبّها لأوّل من دفع له فيها ثمناً مجزياً؟ من هو المناضل السّياسيّ الشّهير الذي انقلب عليه زملاؤه في الحزب، فأصبح معارضاً لوطنه في دولة أخرى؟ من هو محبّ وهبات امبراطور عالم المخدّرات والسّلاح والرّقيق الأبيض؟ من هو هملان أبو الهيبات العشائريّ المخنّث الذي اشتري له والده حزباً كاملاً ليأخذ حصتّه المزعومة من الوطن؟ ويشارك بكلّ صفافة في بيع وطنه للغرباء والأعداء؟ من هما حالم الورديّ وجنان الطّويل الرّجلان اللّغز القادمان من عوالم الانترنت الافتراضيّة ليشتريا المتعة الشّاذة بنقودهما؟ من هو الوسيم الطّويل الذي يعمل في الدّعارة السّياحيّة؟ من هي أمّ بهاء السّيدة المخمليّة الرّاقية التي تخلّت عن ابنتها التي أنجبتها سفاحاً، وألقت بها طفلة وليدة في الشّارع دون رحمة؟ من هو تَيْم الله الجزيريّ الطّبيب المرهف الجبان الذي منعه خوفه من أسرته ومجتمعه من أن ينتصر للمرأة التي يحبهّا، وأن يساعدها في محنتها؟ من ذلك الأسمر اللاجئ إلى عوالم الدّهشة، ويبيع فحولته لنسائها المتعطّشات لغواية التّجريب والاكتشاف لرجال الشّرق؟ من هي باربرا الثّلجيّة التي كانت تطمع في قلب الضّحّاك، وحاربت طويلاً لأجله؟ من هم أولئك العابرون والعابرات في حياة بهاء والضّحّاك الذين جاءوا من الجحيم، وجرّوهما إليه؟
من هي لين بدران الفنّانة التي تعشق صنع أوراق “الأوريغامي”، وصنعت منه قلباً ورقيّاً، وهمست لزوجها الحبيب حمزة: أحبّكَ. في منتصف أعماق قلبي أنتَ هناك، وفي متاهات عينيكَ أعشق ضياعي؟
الآن سأخبركم بالأسماء الحقيقيّة لهؤلاء الورقيين الذي ساحوا في هذه الملحمة السّرديّة المضنية، وصنعوا أقدارها وأحداثها من دمائهم ودموعهم وأطماعهم وخطاياهم وجرائمهم وأحلامهم. استعدوا لتعرفوا من يكونوا.
مستعدّون لذلك؟
أخالكم كذلك.
لين بدران عاشقة “الأوريغامي” وعاشقة زوجها حمزة موجودة هنا، وعمر جنينها الأوّل بعمر هذه الرّواية.
أمّا الآخرون…..
أمّا الآخرون، فلم يحضر منهم سوى الضّحّاك؛ فهو دائماً موجود، والباقون هم هبة لكم، اقتنصوهم في الرّواية أنّى شئتم، وكيفما شئتم.
لن آخذكم في رحلة اعتياديّة رتيبة في تفاصيل الرّواية وفي كيفيّة كتابتها وفي محنة ولاداتها السّبع المضنية؛ فهي الآن بين الأيدي، ولكم أن تبحروا فيها كيفما شئتم، ولكم أن تأوّلوها كيفما تشاءون، ولي الآن أن أرتاح، وأن أتنفّس الصّعداء بعد أن وهبت الحياة لبهاء والضّحّاك، ونقلت النّار من صدري إلى صدور غيري، وتركت الخراب إرثاً جميلاً لي في هذا العالم الكابوسيّ القبيح، في حين يعيش بهاء والضّحّاك الآن حياة سعيدة في مكان ما مجهول، وقد ارتدّ كلاهما إلى سنّ الطّفولة بعد سبعين عاماً من المعاناة الموصول، دون أن يأبها بمن يقرؤون روايتهم الخالدة “أدركها النّسيان”، وينتظرون أن يدركهم نسيانٌ ما.
إنّي أراكم
فهل ترَوْنَنْي؟
الضّحّاك يراني الآن
وهذا يكفيني
شهادة إبداعيّة وإنسانيّة للرّاحلة نعيمة المشايخ عن الأمومة وعن ابنتها سناء الشّعلان بعنوان: “الأمومة تعني أن تحصل على أكثر من فرصة للحياة”.
بقلم الرّاحلة: نعيمة المشايخ
* ألقتها في حفل حصولها على لقب الأمّ المثاليّة في عام 2017 من مبادرة أكرموهم الأردنيّة/ الأردن.
رابط فيديو الشّهادة الإبداعيّة الإنسانيّة:
ابنتي سناء كانتْ دائماً تملك أسئلةً غريبةً، سؤالها الأغرب منذ طفولتها: “لو لم أكن ابنتكِ، وكان الأبناء يُباعون في الأسواق، فهل كنتِ سوف تختارينني، وتشترينني لأكونَ ابنتكِ؟” لطالما أضحكني هذا السّؤال الغريب، لكن بعد سنوات طويلة من تجربتي في الأمومة لسناء وإخوتها الأحد عشر، أقول لها على الملأ، وعلى رؤوس الشّهود: “نعم، كنتُ سأختاركِ أنتِ لتكوني ابنتي، وعندما أحظى بكِ سأشعر بأنّني أم محظوظة لأنّك ابنتي”.
الأمومة لابنتي سناء الشّعلان وهبتني حياة أخرى غير حياتي، وهي حياة سناء الكاتبة والأستاذة الجامعيّة والحقوقيّة الجريئة؛ لقد عشتُ معها من جديد حياة أخرى، لحظة بلحظة، عشتُ معها الحياة التي حلمتُ بأن أعيشها، لكنّني لم أحظَ بها في طفولتي أو شبابي بسبب حياتي القاسية الظّالمة.
لكنّ الأمومة وهبتني فرصة جديدة للحياة عبر ابنتي سناء الشعلان التي تقاسمتُ معها دربها بكلّ ما فيه من دموع وابتسامات وأحلام وحقائق.
ابنتي سناء تشبهني شكلاً ومضموناً صوتاً وصفات مشاعر وطبائع ومواهب، لكنّني صمّمتُ على أن تحظى بما لم أحظِ به من فرص الحريّة والتفرّد والإبداع والتعلّم والسّفر والفرح والتجربة، لقد كنتُ أحلم بأن أحظى بذلك كلّه، لكن الحياة حرمتني من ذلك كلّه، لكنّني أعيشه من جديد مع ابنتي سناء رغم الحياة الحارمة لي.
لطالما أحببتُ الرّسم والكتابة والسّفر والعلم والحرية والنّساء القويّات صاحبات الإرادة والقرار، لكنّني لم أحصل على ما حلمتُ به بعد أن ماتتْ أمّي (زينب أبو شربي) رحمها الله، وأسكنها فسيح جناته، وتركتني وحيدة دون معين أو داعم أو قلب حنون؛ فتكالبتْ عليّ قسوة الحياة ومرارها؛ بذلك ادّخرتُ أحلامي كلّها لابنتي سناء، ووهبتها إيماني كاملاً بها وبمواهبها وبأحلامها، ولم أبخل عليها في لحظة بإيماني المطلق بها، وبعميق دعمي.
راهنتُ عليها بأربعين عاماً من عمري،أخذتها من عمري، لأضيفها طوعاً ومحبّة إلى عمرها، أربعون عاماً من دعمي لها، لتغدو طفلتي الصّغيرة سناء الدكتورة والأديبة سناء الشّعلان، وراء نجاحها اسمي، ووراء تميّزها تعبي، ووراء صمودها دعمي.
أمومتي لها عنتْ لي أن أكون أمّها وصديقتها ورفيقتها ومثلها الأعلى وقوتها وشجاعتها وكنزها وبئر أسرارها وينبوع أحلامها، وعنتْ لي كذلك أن أؤمن بها، وأن أدعمها.
دعمتها منذ كان الرّسم صديقها الأوّل، ودعمتها عندما قرّرتْ أن تكتب روايتها الأولى، وهي في الثّامنة من عمرها، ودعمتها عندما قرّرتْ أن تطبع روايتها الأولى، وأن ترسلها لمسابقة ما في مصر، وساندتها عندما قررتَ أن تسير في درب العلم، وآزرتها عندما قرّرتْ أن تكون صاحبة كلمة قوية وجريئة، ثم قررتُ أن أرافقها إلى كلّ مكان لأحميها وأرعاها، طوّفتُ معها على الأندية الأدبية والإعلاميّة، ثم على منارات العلم ودورها، وبعد ذلك كنتُ رفيقتها الدّائمة في رحلاتها الأدبيّة والأكاديميّة في الكثير من دول العالم.
الأمومة جعلتني أذهب معها إلى السّودان والهند وكشمير والهمالايا وسوريا ولبنان ومصر والجزائر، وغيرها من بلاد الدّنيا، لقد رأيتُ الدّنيا بعينيها، سمعتُ النّاس بأذنيها، قرأتُ التّفاصيل بطريقتها، شاركتهُا في لحظاتها واحدة تلو الأخرى.
هذه التّجربة البديعة جعلتني أعيش فرصة الإبداع التي لم أعشها من قبل، وجعلتني أعيش الشّهرة التي لم أصادفها أبداً في حياتي، وسمحتْ لي بأن أقابل أناساً لم أكن لأقابلهم لو لم أشارك ابنتي سناء حياتها وتفاصيلها.
الأمومة تجربة مرهقة،و تكون مرهقة أكثر إن كانت الابنة مثل سناء؛ فهي ابنة مسكونة بالموهبة والإنجاز والتّحدّي، وكلّها أحلام وتحدّيات،عندها تصبح الأمومة معركة وتحدٍ وعمل موصول.
كان يمكن أن أقبل أن تقتصر أمومتي على أدوارها البسيطة والتقليديّة، لكنّني رفضتُ ذلك، وصمّمتُ على أن أعيش الأمومة الشّاسعة حيث الإبداع، وعشتُ مع ابنتي سناء تفاصيل حياتها جميعاً.
الآن أعرف كيف يكابد المبدع، وكيف يفكّر، وكيف يحلم، وكيف يحزن، ويتألّم، ويسعد؛ لذلك أنا مصممة على أن أكون الفرح لابنتي في أحزانها، والمشارك لها في أفراحها.
الأمومة ليستْ فقط هي سلوك طبيعيّ وفطريّ كما يصفه السّاذجون، بل هي أكثر من ذلك، وأعظم، فهي القدرة على أن تلد أزماناً أخرى، وأحداثاً أخرى، وأقداراً أخرى، لقد ولدت سناء مرة تلو الأخرى عندما شاركتها في دربها.
الآن أنا ألدها مرّة أخرى عندما أحدّثكم عنها، الآن أنا أمّ أكثر وأكثر، ومرّة تلو الأخرى؛ لأنّني أعيش التّجربة، وهي تجربة الكتابة والإبداع والتّميّز، دائماً حلمتُ بأن أكون جريئةً وشجاعةً، وأن أحدّث النّاس عن تجربتي ونجاحي وتميّزي في الحياة،الآن يتحقّق جزء من حلمي، لقد عشته في حياة ثانية ليستْ حياتي فقط، بل في الحياة التي أعيشها عندما أعيش حياة ابنتي سناء.
أقول لكم إنّ الأمومة لابنة مبدعة ومتميّزة هي أمر متعب ومنهك ومرهق،هي تحدٍ كبير،هي رهان صعب كذلك، لكنّني ربحتُ الرّهان دون شكّ؛ لأنّ ابنتي الصّغيرة سناء هي الآن نجمة في السّماء، والآن أتحدّث عن هذه النّجمة، فأقول لكم هي نجمتي أنا، وأنا من صنعها. ما أجمل الأمومة عندما تلد نجوماً!
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته