((ستالين الرهيب)) ! .. ستالين الشاعر!

عبد الامير المجر

بين السابع عشر والثامن عشر من عمري، على ما اتذكر، قرأت في احدى الدوريات العربية عرضاً موسعاً لكتاب بعنوان (ستالين الرهيب)! ولأني من المولعين بقراءة سير الكبار، فقد ظلت تفاصيل ما قرأته في ذهني حتى اليوم، وقتذاك، لم أكن مدركاً بشكل جيد للعبة الصراع بين المعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي) في تبدياتها الكثيرة ومنها بالتأكيد الصراع الثقافي والاعلامي الذي لعب دوراً كبيراً في توجيه الرأي العام، ولم أكن أعلم أيضاً، ان تلك المجلة أو الدورية، تخضع في خطابها العام لموجهات الطرف الآخر (الرأسمالي) الذي ظل يعمل على الغاء الجهد الجمعي لشعوب المعسكر الاشتراكي وتسقيط رموزه السياسية بأساليب شتى، لاسيما تلك التي لعبت أدواراً حاسمة في حلقات الصراع المفصلية التي تعد الحرب العالمية الثانية أبرزها وأكثرها افرازاً للرموز، التي الهبت مشاعر الملايين المحرومة في ارجاء المعمورة خلال تلك الحرب وبعدها!
ولعل شخصية جوزيف ستالين، من أكثر الشخصيات (الشيوعية) اثارة للجدل ليست في أوساط المعسكر المعادي، بل داخل المعسكر الشيوعي نفسه، لاسيما بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي (السوفيتي) الذي نشر فيه (خروتشوف) الغسيل القذر للحقبة الستالينية، والذي أراد من خلال ذلك ان يبدأ صفحة جديدة لتخفيف التوتر العالمي، وتحديداً بين المعسكرين تمهيداً لاعلانه مبدأه الشهير (التعايش السلمي) الذي شق (وحدة الحزب) عالمياً في القصة المعروفة، لكن ستالين بقي على الرغم من كل ذلك في نظر الكثيرين من المحللين الستراتيجيين، (الحائط الكونكريتي) الذي تحطمت عليه أحلام النازية والمثبت الحقيقي لأركان الدولة التي ستغزو الفضاء الخارجي، وتبني أقوى قاعدة علمية وعسكرية في مواجهة المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة..
كان كتاب (ستالين الرهيب) قد سرد (معلومات) كثيرة تناولت الحياة الشخصية، والعالم السري للزعيم القادم من (جورجيا) احدى مقاطعات روسيا القيصرية الى قلب القرار السياسي في الامبراطورية التي أطاحتها ثورة اكتوبر الاشتراكية العام (1917) وكانت -أقصد المعلومات- تثير القرف وتجعل قارئها يتقزز من اسم ستالين، لما تضمنته من تفاصيل مثيرة مثل اقامة حفلات ماجنة ليلية، لصبايا صغيرات عاريات! واسراف غير معقول على مباذل لا تنتمي لقائد اشتراكي يجب أن يتمتع بروح عالية، ونفس كبيرة تترفع على الانغماس في الشهوات والاستهتار بالمال العام.. أو هذا ما أراد الكاتب أن يقوله في كتابه الذي تحضرني تفاصيل أخرى فيه لا مجال لذكرها هنا..
وكان عليّ فيما بعد، أن أعيد النظر في ما قرأته، لا لأبرئ ستالين مما كان يفعله لأن هذا لا يعنيني ولا أقدر عليه تأكيداً أو نفياً لكني انطلقت في قراءتي الجديدة من ادراكي بعدم موضوعية الطرح في هكذا أمور وفي تلك المنابر الاعلامية التي تستقي معلوماتها أو تروج لها من مصادر صرت أفهم مع الأيام والأعوام طبيعة تعاطيها مع الأمور، وآليات تسويقها، وأهدافها منها.
أما مناسبة هذه الاستذكارات هي صدور كتاب جديد بعنوان (الشاب ستالين) لمؤلفه البريطاني (سيمون سيباغ مونتيفور) الذي عاد مع ستالين الى مراتع الطفولة والصبا والشباب أيضاً، ليضيء جوانب انسانية عديدة في حياة هذا الزعيم المثير للجدل، في الحقيقة كنت قد قرأت بعضاً مما وقع بين يدي عن ستالين، في مواقف مختلفة سواء في (تقرير الى غريكو) لكازانتزاكي، ومختارات أخرى تناولت جوانب من حياة ستالين في مراحل مختلفة من عمره الذي انطفأت آخر أيامه العام (1953) لتبقى رحلة حياة الرجل، حبيسة التجاذب السياسي والاهواء (العقائدية) التي تحاول كل منها أن ترسم له صورة تراها!..
الكتاب الجديد يسلط الضوء على جوانب غير معروفة للكثيرين ربما في حياة ستالين طفلاً وصبياً نشأ في كنف أب قاسٍ سكير يضربه لأتفه الأسباب، ما ترك أثراً عميقاً في نفسه سيتبدى في قسوته على خصومه لاحقاً، لكن الجانب الأهم في حياة (جوزيف جوغا شيفيلي) أو جوزيف ستالين كما سيعرف فيما بعد، هو اهتماماته الثقافية، المتمثلة بالشعر والغناء ولعلي قرأت له من قبل شعراً بدا فيه ذا وجدان متوهج، ومنتمياً للحياة كانتمائه للعقيدة التي آمن بها لاحقاً وجعل منها الحياة التي أرادها للآخرين أيضاً!
لقد كان ستالين الشاب يحيي حفلات الغناء لقاء أجور وكان شرهاً في القراءة ومعجباً بالأعمال الفنية لكبار الأدباء والروائيين أمثال تشيخوف وبلزاك وكذلك بأفلاطون! وكان يقرأ الأعمال الأدبية على ضوء الشموع ويقرأ الكتب الممنوعة التي يخفيها عن أعين السلطة وقتذاك بين الخشب المعد للتدفئة! ونقرأ عن ستالين المنفي في سيبيريا حيث سيمضي وقتاً طويلاً في غرفة هناك تصل درجة حرارتها الى (50) درجة تحت الصفر، ولكن ليس هذا هو كل ما سيجعل ستالين جلداً وقوياً وشكاكاً أيضاً، بل ان التجربة المريرة التي عاشها مع (أصدقاء) يأخذه أحدهم الى حفلة رقص ليجد نفسه في قبضة الشرطة، وآخرين كان يظنهم رفاقاً، ليعرف فيما بعد انهم وعلى الرغم من وصولهم الى البرلمان (الدوما) قبل الثورة، بصفتهم (بلاشفة) كانوا يعملون ضمن الشرطة السريةللقيصر!.. هكذا صاغت التجربة شخصية ستالين، وهكذا تزاوجت قسوة الظروف بصلابة الشخصية التي انعجنت بخلطة غريبة من السلوكيات المجتمعية والسياسية لتصنع رجلاً اسمه (ستالين)!
الا ان الكاتب يذكر، والعهدة على مترجمة المادة الزميلة شذى محمد البياتي، انه لا يعرف الطريقة التي وصل بها ستالين الى السلطة، ولا الدور الحقيقي الذي لعبه في ثورة اكتوبر العام (1917) حيث يقول لم يكن سوى فرد صغير في الجهاز الاداري للحزب الشيوعي ولم يعرف عن ستالين في بداية الثورة سوى انه كان أحد رجال حماية الزعيم لينين (كذا) وهذه المعلومة، أجدها غير دقيقة، كوني قرأت ثورة اكتوبر الاشتراكية، حيث لم يكن هناك شيء اسمه الحزب الشيوعي في بداية الثورة وان ستالين لعب دوراً مهماً بعد تسلم البلاشفة السلطة وتشكيلهم أول حكومة برئاسة لينين، بعد استقالة كيرنسكي التي تشكلت لمدة أربعة أشهر فقط قبل انهيارها أمام المد البلشفي وسيشغل جوزيف ستالين (وزارة شؤون القوميات) وسيوقع مع لينين المرسوم الذي غيّر وجه روسيا وأظهر اسم الاتحاد السوفيتي للوجود وكان اسمه (المرسوم حول القوميات) إذ أعطى لكل قومية في روسيا حق انشاء جمهورية (قومية) ولكن في اطار عقيدة الثورة الاشتراكية وان (الحزب الشيوعي) الذي سيشغل الدنيا ويملأ الناس كان قد تأسس بعد العام (1920) في هيكليته ونظامه الداخلي ومشروعه المعروف، لكن يبدو ان المؤلف الذي انهمك في الجانب الانساني في حياة ستالين فاتته هذه المعلومات ولابأس في ذلك مادام الكاتب قد سلط الضوء على جانب من حياة رجل نعتقد انها مازالت بحاجة الى المزيد، انسانياً، وسياسياً أيضاً!!..

al_majar@yahoo.com