حول الهوية الثقافية العربية

د. مصطفى عطية جمعة : سؤال الهوية بين الواقع والطروحات المعاصرة

                                 

    كثيرة هي الأقلام والدراسات التي تناولت الهوية الثقافية العربية منذ طرح هذا السؤال عبر قرنين من الزمان ، فجاءت النقاشات متراوحة بين البحث عن مصادر الهوية ، ومظاهرها ، وأزماتها ، وأيضا مختلفة في آرائها وفق منطلقات مفكريها وإيديولوجياتهم ، ومرجعياتهم الفكرية ، وتكويناتهم المعرفية ؛ فكانت المحصلة ظهور رؤى متعددة للهوية الثقافية العربية ، يمكن إيجازها في محاور:

    أولها : إسلامية الطابع تتسق مع تكوين الأمة منذ القدم ، وكونها حضارة نصٍ مقدس ، وثانيها : عربية الانتماء والثقافة ، وهي نابعة من طروحات التيار القومي التي سادت عقود من القرن العشرين ، وهي وإن كانت تعترف بالبعد التراثي في الثقافة العربية ، إلا أنها تتبنى الاشتراكية حلا لمشكلة غياب العدالة الاجتماعية ، وعلاج ثالوث : الفقر والجهل والمرض ، وقد غلبت عليها النزعة الشمولية غالبة ( والإقصائية أحيانا ) في تعاملها مع الطروحات الأخرى. وثالثها: التيار الليبرالي وهو في مجمله لا ينفي الدين ولا القومية عن مكونات الثقافة العربية ، بل يضعهما ضمن أنساق المجتمع الفكرية والثقافية ، على أن تكون منظومة المجتمع السياسية والتشريعية علمانية الطابع .

رابعها : تيار الانتماءات الإقليمية ، ويقصد به الانتماء إلى دائرة إقليمية أضيق في الجغرافيا ، وأوسع من حدود القطر ، مثل تيار الشرق أوسطية ، الذي نادى به عدد من المفكرين ، وأبرزهم لطفي الخولي في كتابه ” عرب ؟ نعم وشرق أوسطيون أيضا الصادر عام 1994م ، وكان هذا التيار تمهيد للاعتراف بإسرائيل كدولة شرق أوسطية ، عقب معاهدات السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل . ويدخل ضمن هذا التيار الدعوات إلى الانتماء إلى ( المتوسطية ) أو ما يسمى إقليم البحر المتوسط : حضارات وشعوبا وتكوينات ثقافية ، وأيضا ما يسمى بدعاوى الأفرقة والآسيوية التي نادى بها البعض . وأيضا التجمعات الإقليمية مثل : دول مجلس التعاون الخليجي ، والاتحاد المغاربي العربي ، ودول حوض النيل ( الأندوجو ) وغيرها .

خامسها : تيار القطرية وهو تيار متعاظم ، وقد بدأ في الفكر العربي المعاصر مبكرا ، رغم عدم وضوحه ضمن الصراعات الفكرية السابقة  ، إلا أنه كان جليا، وله رواده ومفكروه . وفكرة هذا التيار تعتمد على تعظيم الانتماء القطري ، والبحث عن هوية للوطن / القطر / المكان / الشعب ، وتعميق المواطنة ، وبناء الدولة الحديثة ، وتطرف مفكرو هذا التيار مطالبين بالنأي عن الصراعات الإقليمية والجغرافية . ولعل أبرز رواده الروائي المصري نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما . وهو تيار نال حظا كبيرا من الوجود فيما يسمى نزعات القطرية التي وجدت أن تجارب الوحدة العربية باءت بالفشل ، واكتوت أقاليم العروبة بالخلافات العربية ، ففضلوا الانكفاء على الذات ، وبناء الوطن، والبحث عما يعزز الهوية القطرية تاريخا وحاضرا ، فتغنوا بالحضارات التي نشأت في بلدانهم مثل الفرعونية في مصر ، والآشورية والبابلية في العراق ، والفينيقية والكلدانية في الشام وغيرها .

   وهناك تيارات أخرى تقاطعت مع هذه التيارات الأساسية ، مثل الإقليات الإثنية ( الأكراد في العراق وسورية ، والبربر في الجزائر والمغرب، وقبائل جنوب السودان ) ، التي طالبت بالاعتراف بثقافتها ، ودمجها ضمن أطياف المجتمع . ونفس الأمر حدث مع الأقليات الدينية ( النصارى ، والدروز ، وغيرهم ) .

    ولكن يبقى السؤال معلقا : علامَ أثمر الجدل السابق ؟ هل تم الوصول إلى صيغة مشتركة أم لا يزال الأتون مشتعلا ؟

    لا شك أن الإجابة لن تكون بالإيجاب ، فهذه التيارات بدأت بأسئلة جوهرية ذات بعد تأملي ، طامحة إلى وضع فلسفات لخطط النهضة ، والرغبة في التحديث، ولكنها فوجئت بعشرات المشكلات التي انعكست بوضوح في تعثر مشاريع النهضة ، وعدم تحقيق أهدافها المبتغاة ، وزيادة نزعة السلطوية ، وتعاظم الأنا القطرية ، وانضواء المثقفين تحت أضراس السلطة ، أو انزوائهم في حيواتهم الخاصة ، في حين غرقت الشعوب في جحيم الغلاء والبحث عن لقمة العيش، وزاد الإحساس لديهم بالاغتراب عن الوطن ، ولاذ الكثيرون بالانتماءات العرقية والقبلية والمذهبية ، على حساب الانتماء إلى هوية ثقافية واحدة . ليكون المشهد في بداية الألفية الثالثة : عالما عربيا ممزقا ، تيارات فكرية متصارعة ، لا تكاد تتفق على أجندة واحدة داخل الوطن ، ناهيك عن الاتفاق على أجندة عربية ضمن منظومة المصالح العربية العليا ، وشعوبا فضلت الصمت والغرق في الانشغالات اليومية هربا من نير سلطات دكتاتورية الطابع ، ديمقراطية الشكل، ومن ثم التحق المثقف – بحكم ضائقة العيش – في زمرة بسطاء الشعب ، مفضلا تأمين الذات والانكفاء عليها وعلى أسرته بدلا من عسف السلطة أو مثقفي السلطة .

    وهذا ما يدعونا إلى إعادة النقاش لعلنا نصل إلى رؤية مشتركة ، ونرى أن سؤال الهوية العربية يحتاج إلى نقاش من زاوية أخرى ، تتعلق بمنهجية التفكير العربي ذاته ، ولاشك أن النقاش سيكون ذا صبغة عمومية ، تنظر بشكل أكبر، وتعترف في الوقت ذاته بوجود استثناءات جادة ، تخالف هذه العمومية ، وهذا منطق الأمور ، ولكن طرح هذه الإشكاليات مهم للتعرف على مكامن الخلل ، ربما نصل في النهاية إلى الاتفاق على مداخل مشتركة في جدل الهوية، أو على الأقل طرح أسئلة جادة ، تعيد تأسيس خطاب جديد جاد .

     بداية ، فإن كثير من مفكري الأمة وهم يتناقشون حول هويتها ، يظنون أنهم يفكرون ، ويطرحون جديدا ، ويقدمون أسئلة مقلقة ، ولكن الحقيقة أنهم يعيدون ترتيب انحيازاتهم الفكرية ، واجترار أفكار الغير ، وهذا نجده مبثوثا في كتابات الكثيرين منهم ، من الذين يهاجمون أوضاعا ثقافية ، ولكنهم في الحقيقة أبواق تردد ما يقوله غيرهم أو السابقون عليهم ، وهو ترديد غير دال على رغبة في النقاش ، بقدر ما هو دال على رغبة في الوجود وبالأدق في الظهور. فهذا مفكر عربي تم الاحتفاء به في العديد من العواصم ، وهو يتباهى – دوما – بكونه يمتلك واحدة من أكبر المكتبات في العالم ، نجده يقدم عدة محاضرات ، تطبع في كتيبات يدعي فيها إلى إعادة تشخيص الواقع العربي : الأزمة والهوية، ولكنه في الحقيقة ، يرتب ما قاله الآخرون ، منحازا إلى طروحات بعينها ، يقدمها مزيجا ، يبدو أنه من بنات أفكاره وفي الحقيقة  هو من صنع غيره ، وتكون المحصلة : أفكارا مرتبة ظاهريا ، مجترة مكرورة باطنيا ، تنصبّ كلها على الهجوم على الأصولية والتعليم التلقيني ، وكسر التابو والمحرم ، دون الإشارة إلى عسف السلطة ، ودورها في إعاقة الإبداع وتطفيش العلماء والباحثين الجادين، وقمعها للمعارضين السياسيين ، ولا عجب فهو أحد أبناء السلطة ، وأيضا من رجالها .

    هذا المثقف غير مدان ، لأن الكثيرين من السابقين عليه كانوا يرددون أفكارا رضعوها من الغرب ، ولم يكلّفوا أنفسهم البحث عن الشخصية الثقافية العربية وطرح سؤال أين نحن من هذه الأفكار المستوردة ؟ وهذا لا يعني عدم دراسة الأفكار والنظريات الأخرى ، بقدر ما يعني مناقشتها وتعرف موقفنا الفكري منها، ويكون النقاش نابع من شخصيتنا الثقافية واضحة المعالم ، عميقة الجذور ، تدرك عمق الأزمة الراهنة ، وطبيعة الشعوب العربية ، وبنائها النفسي والاجتماعي .

    أيضا ، من تشوهات التفكير العربي في مناقشته لسؤال الهوية ، أنه يتعامل مع هذا السؤال بفكر أحادي البعد ، انفعالي غير تحليلي ، فإما أن نكون إسلاميين أو لا نكون ، قوميين أو لا نكون ، قُطريين أو لا نكون ، وهذا ما يمنع التواصل ، وينفي الآخر ، ويجعل العقول متجمدة عند مقولات واحدة ، ويحبس أبناء كل تيار في خندق واحد ، وعندما يلتقون يكون حوارهم كحوار الطرشان لا سجال العلماء ، كما نرى في بعض حلقات برنامج الاتجاه المعاكس .

    وهذا يدفعنا إلى محاولة التعرف على البوصلة التي ينبغي أن يضعها المثقف العربي وهو يناقش سؤال الهوية ، وآليات النهضة ، فهل البوصلة يتجه مؤشرها إلى القطر الضيق أم الإقليم الواسع أم المنظومة العربية الرحبة أم الفضاء الإسلامي الشاسع ؟  وبالطبع ستكون الإجابة جاهزة ، نريد  كل هذا ، كما ذكر السؤال، ناسين أن السؤال هنا جدلي ، يستهدف ترتيب أولويات الانتماء، وتحديد دوائر الهوية ، التي ستحدد دوائر المصالح ، وتقاطعاتها ، ومن ثم تعيد رسم القناعات الفكرية ، فلا يتمترس القُطري في حدود دولته ، ولا ينفي القوميُ العربي المحيطَ الإسلامي ، بل يحتوي العقل المثقف كل هذه الدوائر ، وينطلق منها وإليها ، دون نفي أو إلغاء .

    كما أن النقاش حول الهوية ، يستلزم التخلي عن العوار اللغوي ، وهو ما نراه في طبيعة الخطاب العربي حيث تكون المصطلحات مختلف على مدلولاتها، فمثلا ، عندما يُطرَح مصطلح ” الحداثة ” ، نجد عشرات التعريفات له ، تكاد تتناقض فيما بينها ، وبالتالي يكون النقاش لا ثمرة منه ، فهناك من يوصم الحداثة بأنها كفر بواح لأنها تعتمد التدمير للقناعات والموروثات وإعادة تأسيس قناعات جديدة ، وآخر يرى أنها منظومات فكرية منغلقة لأنها لا تعترف بالثقافات الأخرى ، وتجعل عقل المفكر الحداثي هو الحكم وأيضا الخصم والمناقش ، وثالث يرى أنها تمثل قمة التطور الفكري وأقصى ما أنتجه العقل البشري ( أو بالأدق العقل الغربي ) ليتخلص الإنسان من موروثات تمزق الشعوب والعقول . فحينما لا يتم الاتفاق على تعريف ما يكون الحوار بلا منطلقات ولا مرجعيات ، وهذا طبيعي في ضوء فوضى الترجمة ، وتفاوت الأفهام ، وبالتالي لن يكون هناك نقاش منظم ، بل جعجعة دون طحين .

   ومن مظاهر العوار اللغوي أيضا ، ما نراه في المفردات المستخدمة في  خطاب الهوية ، فهي ذات طبيعة استعلائية ، نخبوية ، شديدة التفلسف ، رغم أنها موجهة إلى جمهور المثقفين ، وعامة القراء ، وتطرح عليهم إشكالات تتصل بوجودهم الفكري ، ومستقبلهم النهضوي ، وهذا يجعلنا نطالب أن يكون نقاش الهوية ذا مستويين ، الأول موجه إلى المثقف المتخصص ، والثاني – نابع من الأول – موجه إلى جمهور القراء والمتعلمين .

     أيضا ، فإن خطاب الهوية ، يتعمد تجاهل المناطق الرمادية ، في تركيزه على النظرة الأحادية : إسلامية أو قومية أو ليبرالية ، ونعني بالمناطق الرمادية،  الأقليات الإثنية ، والدينية ، والمذهبية ،  التي استطاع التيار القُطري أن يحتويها ضمن منظومة المواطنة ، ولكن خطاب الهوية يتجاهلها ضمن البحث عن ملامح الهوية الشاملة ، وهذا أنتج إحساسا بالتناقض لدى أبناء هذه الأقليات ، فالأكراد في شمال العراق – على سبيل المثال – يشعرون بالغبن الشديد من قبل القوميين العرب ، الذين انتصروا للسان العربي والثقافة العربية على حساب تهميش الثقافة الكردية ، رغم أنها إسلامية الفكر ، وهم ذوو مساهمات تاريخية وحضارية لا يمكن إنكارها ، وتهميشهم من قبل القوميين جاء بدعوى دمجهم في دولهم ، وفي الواقع كان إلغاء ولّد سخطا وعداءً .

    وفيما يتعلق بموقف خطاب الهوية العربية من المستجدات على الساحة الفكرية العالمية ، فهو إما يتجاهله ولا يدرجه ضمن مباحثه ، وهذا هو الغالب، أو يشير إليه دون أن يوضح موقف الهوية منه . فعلى سبيل المثال : ماذا نقول مع طروحات ما بعد الحداثة ؟ وهي تعالج قضايا غاية في الأهمية ، أهمها الاعتراف بالثقافات المختلفة ، ومزجها ضمن الثقافة العامة للمجتمع . وهل تم تطوير خطاب الهوية ليناقش خطاب العولمة وقت صعوده منذ ما يزيد على عقدين ؟ أم انقسم المفكرون بين رافض ومعارض للعولمة ، وثالث توفيقي يحاول المواءمة ، من خلال التعامل مع الإيجابي والإغماض عن السلبي .

    إذن ، فإن تطوير خطاب الهوية العربية يحتاج إلى مناقشة قضايا تأسيسية ، يمكن أن نوجزها في أسئلة مصاغة ، لأن النقاش الحقيقي ينبع من سؤال وليس من سجال :

 أولها : يتصل بتكوين الهوية ، دون نفي أو تهميش أو إفراط لعنصر على حساب آخر ، وهذا يتطلب أن نجيب عن سؤال : من نحن ؟ وما روافد شخصيتنا الفكرية والثقافية ؟ وهل يتمتع كل قطر عربي بشخصية متميزة ، لا تتعارض مع الأقطار الأخرى بقدر ما تثري تجربتها ؟ وهذا يستلزم البحث عن عوامل تميز كل قطر عربي ، وملامح شخصيته الثقافية بشكل خاص .

ثانيها : هل تكون محددات الهوية : مكانية أم زمانية ، بمعنى هل تنطلق هويتنا من حدود الدولة أو الإقليم أو الموقع الجغرافي أم تمتد في أعماق التاريخ بكل ما يحمله من تجارب وآلام وإنجازات ؟

ثالثها : هل يمكن أن يتشكل خطاب الهوية من رؤى فريق عمل بدلا من المشروعات الفكرية الفردية ؟ وهل يمكن في هذه الحالة أن يجلس الإسلامي والقومي والقطري والليبرالي جنبا إلى جنب مع مفكري الأقليات المختلفة ، لبلورة رؤية مشتركة ، تتعلق بإيجاد خطاب يقبل مختلف الأطياف الفكرية في منظومته دون نفي أو إلغاء ؟

رابعها : كيف ستكون لغة الخطاب عندما تتجه للنخبة للبناء عليها وعندما تتجه للجمهور والعامة للإيمان بما فيها ؟ وكيف سيتم تحديد مصطلحات الخطاب وهي متعددة المرجعيات والترجمات ؟

 

    وختاما ، هذا نقاش لا يستهدف التشكيك فيما تم إنجازه على صعيد خطاب الهوية الثقافية العربية ، بقدر ما حاول تشخيص بعض مظاهر الأزمة ، وإشكالاتها في الواقع المعيش ، ومن ثم جاء طرح الأسئلة معبرا عن أبعاد هذه الأزمة ، وأيضا طامحا إلى رؤية جديدة لقضايا الهوية ، ومستشرفا الغد في ضوء حاضر يتفق الجميع على أنه يحتاج إلى مراجعة جادة .