الدكتور صباح احمد جمال الدين – لندن

ولدت وعشت بأكناف ابٍ مولع بالعربية ، ورث أبناؤه منه هذا الولع ، وله وصايا جميلة لهم منها

قوله لهم 🙁 لا تدَّعي شيئاً اذا لم تتقنه) ، وكان لهذه الوصية تداعيات أتعبتني في بحثي الجديد في العربية ، اللغة التي علمنا ابونا كيف نقرأها بتمعن ، فهو يقول : الكلمة العربية كائن حي كبني آدم لها جسد وروح ! وفي نهاية القرن المنصرم لفت نظري ان هنالك علاقة بين الماء والمعرفة ، وتتبعت الفاظاً وجملاً كثيرة لدفع الشك عن نفسي ولكني وجدت نفسي عالقاً بأمثلة كثيرة لا مجال لإنكار تواترها على هذا المعنى ، اي علاقة الماء بالمعرفة في اللغة العربية ، وهذه امثلتي التي جمعتها في ذلك العام ١٩٩٩ اذ نحن نقول :

١- انه ينهل العلم نهلاً : والنهل كلمة تقول القواميس العربية هو اول شرب الماء .

٢- هذا مورد للشرب : والمورد عند العرب هو الطريق الى الماء ، وكلمة (المورد) اليوم نستعملها

للكتاب الذي نأخذ منه المعرفة .

٣- المصدر : والمصدر عند العرب في الجزيرة ، هو درب الخروج من الماء بعد ارتواء الإبل ، ونحن نستعمل كلمة المصادر لكتب مراجع المعرفة في مكتباتنا !

٤- وتسأل صاحبك ، مِن اين استقيت هذه المعلومة ؟ والسقي والاستقاء لا يكون الا بالماء ! وقد تقول لصديقك ناصحاً : اسقِ أبناءك العلم والمعرفة ، ولا تقول له أطعم أبناءك العلم !!!

٥- ونقول ان فلاناً استنبط هذه المعلومة او الفكرة من الموضوع الفلاني ، والاستنباط مأخوذ

من كلمة النبط ، وهو خروج الماء عند حفر ارض تتوفر فيها عيون الارض !

٦- ونقول ان لفلان سيل من المعلومات والأفكار : والسيل صفة للماء عند جريانه !

٧- وتقول اني متعطش لمعرفة هذه المعلومة  : والعطش والتعطش لا يكونان الا لشرب الماء !

٨- وتقول ادلى فلان برأيه او فكرته ، والفعل ادلى مأخوذة من اسم الدلو والدلاء ، وهي أدوات سحب الماء من الآبار في ذلك الزمان !

٩- وتقول فلان متبحر بالعلم والمعرفة : والتبحر من كلمة البحر ، والبحر ماء كثير !

١٠- وتقول فلان زاخر المعرفة والعلوم : والزاخر من صفات البحر والبحر ماء !

١١- وتقول جاءت الموجات الفكرية من الغرب : والموجات والموج صفة للماء في الأنهار والبحار !

١٢- وتقول منابع المعرفة : والمنابع من كلمة النبع ، وهو من مصادر الماء من الارض !

١٣- وتقول عن الشاعر : فاضت قريحته ، والفيض والفيضان من صفات زيادة الماء في الأنهار لتغطي الاراضي المحيطة بها !

١٤- وتقول روى فلان عن فلان : وروى يروي من الارتواء اي حال ما بعد شرب العطشان الماء !

١٥- وجاء في القرآن ، في الآية السابعة من سورة هود (وهو الذي خلق السَّمَاوَاتِ والارضَ في ستة ايام ، وكان عرشه على الماء ) وفسر الكثير من علماء التفسير الماء هنا ، بالعلم ، لان الله لم يكن بعد قد خلق السماوات والأرضين !

١٦- وفي حديث لابن عباس ، يصف فيه علمه بالقرآن الى علم الامام علي ، قائلاً : (فإذا علمي بالقرآن في علم علي ، كالقرارة بالمثعنجر ) اي كالغدير بالبحر ! والغدير والبحر ماء!

وهنالك تعابير لا تحصى عدداً تشابه ما ذكرته أعلاه في لغتنا الجميلة ، كقولك تدفق بالحكمة ، وصاحب العلم الثر ، وانهمرت منه الحكمة والمعرفة ، والتيارات الفكرية ، هذا غيض من فيض من التعابير العربية تحتوي هذا المفهوم !

لما جمعت هذه الكلمات في نهاية القرن الماضي ، اردتُ ان انشرها ، وتذكرت مقولة ابي في نصحه لي ولاخوتي (لا تدَّعي شيئاً اذا لم تتقنه ) وأخذ هذا مني عشرين عاما ونيف ، حتى تأكدت من كثير من السفارات في لندن ، من الملحقين الثقافيين بسفاراتهم ، ليسألوا لي معاهد

اللغة عندهم عن وجود هذا المفهوم في لغتهم ، وتأكدت (ان لا لغة اخرى على الارض لها صفة جمع الماء بالفكر) ثم تتبعت في نفس المدة ، أفتش عن مصدر جمع الماء بالمعرفة ، فما وجدت ذلك الا في الدين السومري ، ولهم أربعة آلهة كبار كل منهم يمثل مصدراً من مصادر خلق الكون ، وهم :

١- أنليل : اله السماء ، ورمزه الهواء.

٢- آنو : اله النور ، ورمزه النار .

٣- گيا : إله الارض ورمزه التراب .

٤- أنكي (او أيا ) إله الماء والحكمة والمعرفة ورمزه الماء !!!

ثم عدت لكل كتب فقه اللغة العربية فلم اجد من ذكر هذه الصفة الجمالية ، وراجعت بحوث المجامع العربية في مكتبات لندن الشهيرة ، فلم اجد من ذكر هذه الصفة الجمالية ، اي لا القدماء ولا الجدد من علماء اللغة قد توصل الى هذه الحقيقة ، وشجعني ذلك ان اعرضها

أولاً في (ديوان الشذر الثقافي)وكان الحضور من مثقفي العراق ، وهم قلة ولكن لم يشجعني

احد على المحاضرة بصورة عامة ،  وقلَّة منهم ناقش رافضاً اي علاقة للعربية بالسومرية

وافهمتهم انا لا اقصد علاقة اللغتين ببعض إنما فكرة (جمع الماء بالفكر والمعرفة) هي التي

دخلت العربية ، ثم شاء سوء حظي ان اقتنع بعرضها على قناة عراقية بأمريكا ، إذ لقيت

عنتاً وسوء في (أدب النقاش) حول علاقة العربية بالسومرية ، مع اني كررت لثلاث مرات اني

لا اقصد اللغة السومرية !

بأي حال اني اتحدى : ان يجدوا اي لغة اخرى لها صفة جمع الماء بالمعرفة في تعابيرها ، وان

يجدوا اجتماع الماء بالفكر الا عند الدين السومري ! وهذا يدل دلالة وثيقة على قِدم العربية !

والى اني قد اثرت اهتمام علماء فقه اللغة الى جانب جمالي جديد لم يُسبق !