قصة قصيرة
قتلى العدو الخمسة!
*عبد الامير المجر
تسللنا عبر طريق نيسمي، تظلله أحراش جبلية عالية.. كنّا ستة ، نؤلف دورية قتالية، ليلية، خمسة جنود يقودنا ضابط شاب، التحق بوحدتنا قبل اسبوعين من مهمتنا، التي اوجزنا اياها قبل الشروع، بكلمات، كنت أخالها وهي تخرج من فمه، تسحل معها أحشاءه، وعبثا حاول ان يظهر تماسكا يتطلبه وقار الرتبة.. لم تكن مهمتنا سهلة، لكنها ليست شاقة تماما، فالهدف ليس في العمق البعيد، مع انه خلف قطعات العدو، والثغرة التي سنتسلل منها، تحرسها عيون رجالنا الرابضين في الأمام، وربما في العمق أيضا!.. انطلقت الدورية في اللحظات التي غط فيها القمر خلف الجبال ليحيل ليلها البهيم الى كتل من سواد، عملاقة، تخترق حلكته زخات متقطعة لرشاشات ثقيلة وخفيفة، تترك صداها يتعثر بين الوديان التي كان علينا ان ننزل الى أقربها، ومنه نعقب طريقا يعرف مكانه على الخريطة الضابط الشاب الذي يلتفت الينا بين حين وآخر، ليسألنا بصوت متهدج خفيض، عن صحة المسير، فنجيب بالايجاب او نعدل من خطونا قليلا، حين تنادينا كتل صخرية، تبدو مشفقة فنرتديها دروعا مؤقتة من طيش الرصاص.. كان ثلاثة منا، بضمنهم أنا في مواقع العدو قبل انسحابنا الأخير منها، نعرفها ونعرف دروبها الضيقة التي منحتنا انسحابا آمنا من قبل..
ظل حديثنا همسا طيلة الطريق ، وغدا بالايماءة لما تجاوزنا خطوط العدو الامامية، والمهمة باتت تقترب من لحظات الحسم حين صرنا على مشارف الهدف..
قبل الانطلاق، بدت ابتسامة آمر السرية باهتة حين وضع يده على كتف الضابط الشاب، آمر دوريتنا، بعد ان وضح لنا مكان الهدف على الخريطة الصغيرة التي طواها وسلمها اليه، وأمر باحضار الشاي لنا قبل الشروع الذي حدد وقته، عند غياب القمر، أي بعد ساعة تقريبا من منتصف تلك الليلة الشتائية شديدة البرودة..
اكثر من عشرة ايام على التحاق الضابط الشاب الجديد، وانا لا أعرف عنه غير اسمه، والمصادفة وحدها عرفتني اليه عن كثب، حين كنت جالسا وحدي بعد ظهيرة أحد الأيام الماضية، مسترخيا على صخرة كبيرة، بدت نافرة عن موقع سريتنا عند الجانب الايسر من الجبل الذي احتلت قمته، ربايانا، كان قد لمح بيدي كتابا، وعندما اقترب مني، هممت بالوقوف تحية لمقدمه، لكنه ظل ينظر الى غلاف الرواية التي لم اكملها بعد، وحين عرفها قال بعفوية ودون ان ينتبه لارتباكي.. الله.. للحب وقت وللموت وقت!!.. لحظتها، نسيت المناخ العسكري الذي يجمعني به كضابط لا أعرف مدى تمسكه باصول التعامل مع الجنود!.. وقلت؛ هل قرأتها سيدي؟!..
–لاانسى عوالمها وعوالم ( كل شيء هادىء على الجبهة الغربية) ..قال ذلك واضاف .. هكذا يُكتب ادب الحرب والاّ فلا !
أخذنا الحديث في الأدب والشعر الى عوالم تعددت بين دوربه، وباتجاه حياة غادرناها في المدن وعوالمها المملوءة بالجمال، ورحلنا عائدين الى ايام الدراسة والجامعة التي لم أعشها الاّ مع ذكرياته فيها والتي امتدت معي طوال اكثر من اسبوع، كان فيها بعضاً مني، لا استطيع مفارقته أو مفارقة احاديثه التي كثيرا ما تحيل قمة جبلنا الى قارب هلامي، نبحر فيه وسنانين.. وعند ايام حبه في الجامعة، يتوقف كثيرا ليعدّ الورود، ثم يختار اجملها ويقول؛ (ميعاد) صغيرته التي ضمخّت بعطرها ايامه منذ عام ونصف، كان ذائبا في غمغماتها التي تبلل لسانه عند كل حديث، كذوبانه في الشعر والادب اللذين بدونهما تذبل الحياة ..هكذا كان يقول لي!… في حديثي عن خيباتي التي رممها لي عشقي للأدب والقصة، أتوقف معه عند محاولات لي فيها ألملم من خلالها شتات زملائي الذين تاهت بهم محارق الوديان في المعارك الأخيرة،فيقرأ مااسميه قصصا كنت اكتبها ، ثم يعلق ويناقشني ، وصار يشاطرنا ليل الاحاديث الذي تتقاسمه امطار حكاياتنا والشعر الذي أقرأني بعضا مما كتبه فيه، ويتألم ويضحك لنوادر زميلنا القروي عن حبه الذبيح على محراب العشيرة في بيوت القصب التائهة بين انهار الجنوب البعيد..
لقد دفعه احساسه بالامان والدفء بيننا الى تحمل حرج اختيارنا للمهمة الخطرة التي طلبنا اليها آمر السرية ووجدناه معه في موضعه حائرا بين عينيه سؤال لم ندعه يسأله وأجبنا عليه بالعيون!..
لم يكن كلام آمر سريتنا همساً حين وصف لنا الهدف، لكنه قال ذلك بنبرة هامسة كأنه يخصنا بسر لا يريد لغيرنا معرفته، قال وهو يوزع نظراته بيننا تارة، والخريطة المعلقة على الحائط تارة أخرى، ثم وضع العصا المدببة على المكان الذي استقر فيه هدفنا المنشود، قبل ساعات! اشار الى الجبل في الخريطة ومد يده لا شعوريا باتجاهه، حيث يربض قبالتنا وسط سنون صخرية تتراءى لنا من مكاننا غير البعيد عنها، كظهور جمال تقطع كثباناً رملية متموجة، وخلف احد السنون الصخرية العالية استقرت اجهزة جديدة، لم نعرف عنها اكثر من ذلك.. ((انها في سيارة مصفحة، ذات لون أخضرداكن ، وقمرتها مربعة عالية )) وراح آمر السرية يحرك يده واصفا الهدف، وبعد لحظات صمت قصير، اردف يقول، لا بد من تدميره الليلة!.. انها الأوامر..وقبل ان نجلس وضع يده على كتف الضابط الشاب، مبتسما وقد طوى الخريطة الصغيرة وسلمها اليه. فبدا حينها وجهه الفتي غارقا في عتمة، كان يبحث فيها عن نفسه، أو عن شيء سيكونه ولا يدري كيف، فبعد ساعة أو أكثر بقليل، سيقرأ الشعر من فوهة بندقية، ليقتل!..
حين أزفت لحظة الانطلاق انطفأت وجوهنا وسط الظلام الدامس، وغابت ملامحها تماما، وبدونا ونحن نسير محنيي الرؤوس الغاطسة بقماصل الفرو المشدودة على الوجوه، كقطيع دببة يقصد مكانا لا يعرفه تماما..
أشار الينا الضابط ان نتوزع غير متباعدين حول الهدف أو قبالته، لنؤلف ربع دائرة، فرأينا وعلى الضوء الشحيح لموقد متقد الحجر من دون ألسنة لهب عالية جنديين يجلسان، متقابلين حول النار التي اضاءت داخل الخيمة المنصوبة قرب العجلة، ولمحنا في الخيمة ثلاثة جنود يغطون في نوم عميق، قريبا من أجهزة معدة للنصب في الفسحة الصغيرة، بين السنون الصخرية، أو خلف الجبل فتأكدنا لحظتذاك ان (البضاعة) قد وصلت فعلا قبل ساعات من تكليفنا بمهمة تدميرها التي تتطلب، حتما قتل الجنود الخمسة بالرمانات اليدوية أو الرشاشات، وعلى وفق الخطة التي سيعقبها، بعد التنفيذ، قصف مدفعي مكثف ليكون غطاءً ناريا لنا في اثناء الانسحاب!.
كنا ننتظر الاشارة من آمر دوريتنا الذي راح يتفحص المكان، وينظر الى الجنود الخمسة، كان أحد الجنديين الحرس، صغيرا نسبيا، يتحدث مبتسما مع زميله الذي يحك رأسه من وراء القمصلة التي تغطيه، ويضحك بتثاقل من أثر النعاس… صار مكاني بعد الانتشار على الجهة اليمنى، أجلس القرفصاء خلف صخرة شبه مشطورة، وخلفي صخرة أعلى قليلا، تسترني تماما عند الجلوس، فيما كان الضابط وزملائي أقرب الى بعضهم مني، ويشرفون مباشرة على الجنود والاجهزة التي بات بينها وبين التفجير لحظات، أو اشارة صغيرة من الضباط لتنهمر رسل الموت على رؤوس الجنود الخمسة.. أخذت دقات قلبي تتسارع اكثر، ولا أدري ما الذي يؤخر الضابط لأطلاق الاشارة التي تمنيتها تخطئ بجحيمها الجنود!..
بعد ان وصفت له حجم المعركة، الاخيرة وبعض سابقاتها في احدى جلساتنا الخاصة ، حدثني عن قصيدة سيكتبها، وسيجعل موضوعها جنودا قتلى من جيشين متحاربين يلتقون بعد ان يهبطوا من الغمام مثل طيور كسيرة الاجنحة، في جزيرة نائية يحمل كل واحد منهم جروحه بين يديه، مثل رضيع ذبيح، ويتحدثون لبعضهم عن لحظات الحياة الاخيرة ، وحينما يكتشفون انهم قتلوا بعضهم، تنط الجروح وتستحيل حمائمَ بيضاً لترسم في السماء مكان المعركة وتطلق نشيدا حزينا، فيتعانقون وبدموع بعضهم يغتسلون، ثم يرقصون ويرقصون حتى يتلاشون تماما، تاركين القصيدة التي سيدونها باسمهم مكتوبة على تلك الارض النائية كي لا تدنسها من جديد أمجاد الحروب!!…
ابتسمت لما انتهى من وصفه قصيدته القادمة، وهززت رأسي، وقلت؛ انتم الشعراء تشطحون كثيرا، فتكتشفون حيوات غريبة لا تصلح للآخرين!.. في الليلة التي وعدني باكمال قصيدته التي بدأ كتابتها قبل بضعه ايام، ليقرأها لي، تم استدعاؤنا للمهمة، فنسى ونسيت!…
رفعت رأسي من بين الصخور لأنظر اليه من مكمني، وعلى الضوء الباهت، رأيت عينيه مزججتين وهو يتأمل المكان ويصغي لحديث الجنديين الذي لا يفهمه.. ربما من شدة البرد وربما لا سباب أخرى لا أعرفها، كانت آخر لحظة أراه فيها قبل ان ينهمر الرصاص.، فحين دوت عاصفة الموت رأيته يتدحرج على وجهه باتجاه الجنود الفزعين، ورأيت زملائي الاربعة يتدحرجون أيضا الى الامام والى الخلف، بعد ان تمزقت اجسادهم، فيما كنت من مكمني الآمن في تلك اللحظات الوحشية، اراقب حركة الجنود الذين باغتونا من الخلف،. نهضت حين أقتربوا مني، كأني أشلع معي السن الصخري من مكانه راسما بيدي الرقم(11) في الفضاء المدلهم، وقد تبارقت لحظتذاك امام عيني اللتين ظلتا تطاردان حركة يدي الضابط الشاب وهما تتوسلان العشب اسفل السن الصخري للتشبث بالحياة في حلكة الليل البهيم.. تبارقت واستقرت امامي صورة الصغيرة (ميعاد) وخلتها عند سفح الجبل المقابل، قرب ربايانا، تغفو بين الورود.!..