قصة قصيرة : دفوف
الأديب زيد الشهيد
كان الفضاءُ الماثلُ يقطفُ الزغاريد المتصاعدة أعلى حوشِ الشيخ ” مفتاح ” عندما مرَّت النسوةُ الثلاث يخترقنَ حشدَ النخيل ويمزقّنَ الظلال الرطيبة .
الدربُ الذي يتلقَّف أقدامَهن الحثيثةَ يمرُّ جنبَ ( الماجل ) الدائري الوسيع العائد لمزرعة مؤذن الجامع القريب ، ويقربهنَّ من نظراتِ الرجالِ المحتفين داخلِ الخيمة المستطيلة . قالت الأولى : ” لابدَّ أنهنَّ أكملنَ مراسيم تحنية العروس .” وشدّت على عباءتها البنفسجية المطعّمة بدوائرٍ لونيةٍ نافرة .. وافقتها المرأةُ المحاذية بكلمةِ : ” ربّما ” ! .. ولم تفعل شيئاً لعباءتِها السوداء المزروعة بقطيعِ فراشاتٍ برتقاليةٍ مبعثرة ، بينما صمتت الثالثةُ التي جاءَ سيرُها لاحقاً .. اكتفت بأنْ تطلّعت يميناً فرأت من بينِ كثافةٍ رجالية شباباً يحملون دفوفاً ينقرونَها بضرباتٍ تتوافق وترجيعاتِ الصدى .. تمتمت : ” متى أسمع وأشهد كلَّ هذا يا مبروكة ؟! ” ( وكانت مبروكة على رفيفِ تهافتِ اللحظات تنظرُ في مرآةٍ دائريةٍ صغيرةٍ أخذتها خِلسةً من صندوقِ أمّها الخشبي ، خارجةً إلى فضاءِ الحوش حيث أصواتُ الدفوفِ نائيةُ لا تصلها .. راحت تُترجم ابتداءات الغضونِ أسفلِ جفنيها الهابطين على وجنتيها .. بأصابعِ كفّها الطليقة تجوس انحدارَ الرقبةِ باتجاهِ النَّحرِ متذكّرةً ” عصرانة ” التي توازيها العمر .. تخالها كاملةَ الزهوِ / غاطسةً برفَلِ الرداء الحريري / مثقلةً بلميعِ المصوغات الباهرةِ خضيبةَ الكفين والقدمين ؛ ثم الجدائل ) .
صخبُ الأكفِّ والحركةُ الجيّاشة داخل الفناء الضاج تلقّفت النسوةَ الثلاث وفرقتهنَّ .
الأولى : احتضنت أمّ العروس بعدما دفعها الفضولُ للبحثِ عنها وسطَ الجموع تُمطِرُها بالقُبل .
الثانية : حاولت الوصولَ لأداءِ نفسِ الدور لكنّها عجزت ؛ مأخوذةً بهديرِ أجسادِ الفتياتِ الراقصات ، والمصفّقات ، والمزغردات ؛ والغارقات في غَمَر التطلّعِ ورسمِ الأماني . فدفعها الهديرُ بعيداً .
الثالثة : فضّلت الجلوسَ قريباً من العروس تتفرّس بها ثم تتبادل الدورَ تخيلاً مع ” مبروكة ” الابنة بذات الرداء وهاته المصوغات وذلك الخضاب ؛ لكنَّ مبروكةَ أجملُ وأرقُّ مقارنةً .. عادت التمتمة تتهالكُ على شفتي الأم : ” لماذا لا يطرقُ الحظُّ بابَها إذاً ؟! … ابتسمت ” عصرانة ” لها فتداركت المرأةُ الموقفَ شاعرةً أنها ضُبِطَتْ من قِبل الفتاة فمدّت كفّها للمصافحة .. إلاّ أنَّ طراوةَ الحنّاء حالت دونَ الأداء ، فضحكت العروسُ وضاعَ صوتُ خجلِ المرأةِ في صَخبِ الأكف .( بينما ضاعت مبروكةُ في زحامِ أسئلةٍ آلت إلى سؤالٍ واحدٍ جامع يقول : ” متى .. متى ؟! ” مستعرضةً وجوهاً مُحتملة للاقتران كثيراً تخيّلتهم ولم تصطد أحداً . عادت تجوس تضاريسَ الوجهِ والقَسمات ؛ نادبةً الآمال والرجاءات أنْ : تعالي .) .. وسمعت المرأةُ من بين حمّى الضجيجِ صوتاً : ” تعالي ! ” … نهضت لتواجه صاحبتيها يومئِنَ ويخرجنَ .
راحت تتعقبهنَّ خروجاً باتجاه حشدِ النخيل الذي استبدلَ ضلالَه بالظلام ، مُجترّةً مَذاقاً استحال مُرّاً ، ومتذكرةً بنتاً غدت خنجراً ينخز خاصرةَ الذاكرةِ ويوغل في ثنايا الروح .
دلالات الفضاء في قصة (دفوف) لـ زيد الشهيد
السعيد موفقي / قاص وناقد جزائري
في هذه القصة استوقفتني جملة من المحطات ، قد تبدو صورها مجرد توصيف لأحداث وقعت أو من وحي الخيال ، غير أنّ الكاتب أدرك منذ البداية على أن تكون صورة الأشياء مبعثرة و مشتتة بين فضاءات مختلفة ، يعتريها كثير من التناقض و قليل من الانسجام ، تداخلت فيه مستويات صوتية قوية و صاخبة ، اخترقت فضاء المحيط وهي تدك أرجاء الأمكنة الموزعة هنا و هناك ، بدت المناسبة سعيدة ، انشغال بفوضى الحياة مع استغراق زمني لا محدود ، هكذا أرد الكاتب أن تكون بداية الحدث ،((كان الفضاء الماثل يقطف الزغاريد المتصاعدة أعلى حوش الشيخ ” مفتاح ” عندما مرَّت النسوة الثلاث يخترقنَ حشد النخيل ويمزقّنَ الظلال الرطيبة .)) ، تزاحمت في هذا الاتجاه أجزاء أخرى من مشاهد الانطلاق و بعث الفرحة و الانشراح في فضاء الأشياء التي عمها ضباب كثيف ، رمز إليه الكاتب بحركة الأقدام الفوضوية لتعطي صبغة طبيعية لعملية الانتقال بين الشخوص و عناصر الطبيعة المتنوعة و المتناقضة في بنيتها ، اللون و الحركة ، و الشكل و خطوط العرض الغير متناسقة فيما بينها ، في الحقيقة لم يغفل الكاتب رسم الخلفية الحقيقية لبساطة الحياة في هذا الحيز المكاني المحتشد ، فرضته جملة من الضروريات الفطرية التي تحرك النفس ، ارتفاعا و نزولا ، استقرارا و تغيرا ، أشار الكاتب إلى قرائن توحي بهذا الاستمرار و التغيّر و ترك تفصيلات الأحداث لمتغيرات أخرى يستكشفها القارئ مرحلة مرحلة و دون عناء كما يبدو ذلك في هذا المقطع المركب من أجزاء غير مكتملة في بنائها و مرتكزاتها (( الدرب الذي يتلقَّف أقدامهن الحثيثة يمر جنبَ ( الماجل ) الدائري الوسيع العائد لمزرعة مؤذن الجامع القريب ، ويقربهنَّ من نظرات الرجال المحتفين داخل الخيمة المستطيلة .))، لم يشأ الكاتب مغادرة هذا الفضاء دون تمهيد لما لم يتوقعه القارئ ، قد تبدو البداية من ها هنا عندما يقحم الكاتب تصوره للأشياء مستفزا القارئ في كثير من الأمور التي غدت غامضة منذ عملية الانتقال بين الأشياء و تداخل الأصوات المنبعثة من حشود تراكمت من هنا و هناك نحو اتجاه واحد ، و اللاشعور لم يتغير بما أنّ بداية الحدث ارتبطت بفكرة الوصول إلى غاية سار في اتجاهها الجميع و رسم أمانيه و علق كل مكوناته قصد التغيير و التجديد ، ترك الكاتب أمام القارئ هذا المدخل كإحالة لمستجدات تساعده على مواصلة السير و البحث باستمرار ، الشكل الجديد الذي بدأ به في هذا الموقف اختلاقه حوارا بين شخصيات قد تبدو عارضة و لكنها محفزات أخرى للقارئ ، و أجزاء نامية لبقية مقاطع الصورة التي بدت مشوهة أو ناقصة ، ملامح الفرحة ، تداخل الأصوات بفوضى الألوان و الصخب و الهرج و عبثية كل ما يلامس المشاعر أو الرؤية (( قالت الأولى : ” لابدَّ أنهنَّ أكملنَ مراسيم تحنية العروس .” وشدّت على عباءتها البنفسجية المطعّمة بدوائر لونية نافرة .. وافقتها المرأة المحاذية بكلمة : ” ربّما ” !))و لحد الآن لم تظهر الصور متوازنة بما أنّ النسوة لوحدهن صنعن هذا الانتقال و كثافة المشهد بدت طبيعية مألوفة على الرغم من أنّ طبيعة التفاعل تكون عادة بمختلف العناصر و لا يحركها طرف واحد ، غير أنّ الكاتب تعمّد ذلك و ترك الأحداث طبيعية تتخذ سبيلها من تلقاء نفسها دون توجيه من الكاتب نفسه ، و لكي تصبغ الحركة بشيء من العفوية و الفطرة في تلازم الأشياء و انسجامها و اتساقها في حدود الصورة التي رسمها منذ البداية (( .. ولم تفعل شيئاً لعباءتها السوداء المزروعة بقطيع فراشات برتقالية مبعثرة ، بينما صمتت الثالثة التي جاء سيرها لاحقاً .. اكتفت بأنْ تطلّعت يميناً فرأت من بين كثافةٍ رجالية شباباً يحملون دفوفاً ينقرونها بضربات تتوافق وترجيعات الصدى ..))و كان لابد من الاستمرار في هذا الاتجاه بما أنّ ثقافة المحيط تفرض عليه ألا يتعدى مجاله و عرفه و لكي تبقى مصداقية التنقل و التغير و الحركة في وتيرة واحدة و على نمط بعيدا عن التكلف و الصنعة ، فكل المثيرات التي اختارها الكاتب ليغذي بها مجال القصة الواسعة و الحقيقة طبيعة الموضوع في حد ذاته لا يمكن أن يتنفس في هذه الحدود ، فاختصر الطريق إلى إشارات و رموز تكفي لاستحضار كل الأفكار و التجارب التي من شأنها جعل القارئ يقترب من الصورة الحقيقية للمشهد حدث أو لم يحدث و يظل سعيه مشدودا بفضول شديد للنهاية التي من الممكن أن تكون مفاجئة ، فالحديث الذي دار بين النسوة ، شمل تفسيرا قويا لعملية التفجير المبكر لكل التوقعات و المكبوتات ، و ظل الحلم هو الهاجس لهنّ ، ترتفع محاولاتهن للتغيير إلى أكثر من مجال ، و تمركزت جهودهن في بساطة حديث النسوان بأصوات مرتفعة أو مكتومة أو بتمتمات كما عبّر عن ذلك الكاتب (( تمتمت : ” متى أسمع وأشهد كل هذا يا مبروكة ؟! ” ( وكانت مبروكة على رفيف تهافت اللحظات تنظر في مرآة دائرية صغيرة أخذتها خِلسةً من صندوق أمّها الخشبي ، )) ، و تلاحظ التزام الكاتب باستعمال لفظة ” فضاء ” ربما لدلالتها القوية أو احتمالها لأكثر من معنى في هذا السياق النفسي الممتزج بنشاطاته الاجتماعية كما بدا لنا في مستويات الحديث ((خارجةً إلى فضاء الحوش حيث أصوات الدفوف نائية لا تصلها .. راحت تُترجم ابتداءات الغضون أسفل جفنيها الهابطين على وجنتيها .. بأصابع كفّها الطليقة تجوس انحدار الرقبة باتجاه النحر متذكّرةً ” عصرانة ” التي توازيها العمر))، ثم ينشغل الكاتب بجوانب ذات دلالات جسمية و حسية مقصودة ، الاهتمام بالأوان الذي أشار إليه في البداية لم يكن عبثا حيث يساعد على بعث صور الأشياء في تفاعلها و تمركزها المتغير من وضعية إلى أخرى ، الإكثار حديث الفضوليات و تمسكهنّ بتفاصيل ليست جديدة ، تساعدهن على وضع كل الحدود التي ورثنها أو اكتسبنها بفعل التغيرات الجديدة و الاحتكاك الحادث بفعل المتغيرات القوية ، سواء كانت وافدة أو محلية (( .. تخالها كاملة الزهو / غاطسةً برفَل الرداء الحريري / مثقلةً بلميع المصوغات الباهرة خضيبةَ الكفين والقدمين ؛ ثم الجدائل ) .))، و استمرار الاحتكاك بين مختلف المؤثرات الذي نجم عن اجتماع هؤلاء النسوة لم يكن عشوائيا ، إنّما قصد به الكاتب رسم تطور الحدود الثقافية لجملة من المعتقدات التي تمارس في محيط مشبع بمختلف الأفكار لا تمييز فيها بين الدخيل أو الأصيل كما أشار إلى ذلك الكاتب عندما ترك الحديث يأخذ مجراه بينهنّ و لم يعقّب ، و تركه ينتهي بعفوية كما اختارهن ، هكذا بدت الصورة التي اعتبرها الكاتب صالحة لمعالجة (( صخبُ الأكفِّ والحركة الجيّاشة داخل الفناء الضاج تلقّفت النسوة الثلاث وفرقتهنَّ .)) ، بم يمكن تفسير هذا التقرب الذي أحدثته النسوة في نشوة عارمة ، و قد أخذن أكبر حظ في عملية رصد قمة السعادة المنشدوة في هذا التمدد الزمني الغارق في متاهات الحياة المنعكف على أسرار كثيرة ، كثري منها مجهول ، لا يمكن تفسيره إلا برغبة جامحة في مستويات الذات العالقة في حصارها الذي صنعته بنفسها و ظلت تدور قي حدود كثيرة غير منتهية (( الأولى : احتضنت أمّ العروس بعدما دفعها الفضول للبحث عنها وسط الجموع تُمطرها بالقُبل .
الثانية : حاولت الوصول لأداء نفس الدور لكنّها عجزت ؛ مأخوذةً بهدير أجساد الفتيات الراقصات ، والمصفّقات ، والمزغردات ؛ والغارقات في غَمَر التطلّع ورسم الأماني . فدفعها الهدير بعيداً .
الثالثة : فضّلت الجلوس قريباً من العروس تتفرّس بها ثم تتبادل الدور تخيلاً مع ” مبروكة ” الابنة بذات الرداء وهاته المصوغات وذلك الخضاب ؛ لكنَّ مبروكة أجمل وأرق مقارنةً .. عادت التمتمة تتهالك على شفتي الأم : ” لماذا لا يطرق الحظ بابها إذاً ؟! … ابتسمت ” عصرانة ” لها فتداركت المرأة الموقف شاعرةً أنها ضُبِطَتْ من قِبل الفتاة فمدّت كفّها للمصافحة .. إلاّ أنَّ طراوة الحنّاء حالت دونَ الأداء ، فضحكت العروس وضاع صوت خجل المرأة في صخب الأكف .)) ، هل هو البحث عن الحقيقة ، من أي نوع هي ؟ لابد من أنّ الفكرة يشوبها كثير من الغموض الذي لم تبديه إحداهن للأخرى و كيف يستمر الصراع ، أو يتنهي و الأحلام قد تراكمت بشكل فوضوي ، تقديراته الحقيقة لم تلامس الطبيعة الحقيقة فيما ترغب فيه الذات ، إنّه الانتقال إلى الجانب الآخر من حركية الأشياء ، و في اىلحقيقة لم تكن المسألة مجرد ظاهرة عرس بقدر ما كانت نية الكاتب في الوصول بالقارئ إلى مختلف العناصر التي يتعامل بها في حياته ، في مختلف المناسبات ، و في أبعادها ، النفسية و الاجتماعية و حتى الفلسفية ((( بينما ضاعت مبروكة في زحام أسئلة آلت إلى سؤالٍ واحدٍ جامع يقول : ” متى .. متى ؟! ” مستعرضةً وجوهاً مُحتملة للاقتران كثيراً تخيّلتهم ولم تصطد أحداً . عادت تجوس تضاريس الوجه والقَسمات ؛ نادبةً الآمال والرجاءات أنْ : تعالي .) .. وسمعت المرأة من بين حمّى الضجيج صوتاً : ” تعالي ! ” … نهضت لتواجه صاحبتيها يومئنَ ويخرجنَ .
راحت تتعقبهنَّ خروجاً باتجاه حشد النخيل الذي استبدلَ ضلاله بالظلام ، مُجترّةً مَذاقاً استحال مُرّاً ، ومتذكرةً بنتاً غدت خنجراً ينخز خاصرة الذاكرة ويوغل في ثنايا الروح .))
النهاية لم تكن مجرد تنفس ، لعل الكاتب تعمد ترك أسباب النهاية و مبرراتها لأسباب موضوعية، لأنّ الإنسان جملة من التأثرات لا تحركها إلا مثيرات طبيعية وواقعية و هي منسجمة بين الجسد و النفس و الروح.