نتاجات ابداعية: السلّم الموسيقي السومري

علي الشوك :-
كانت الموسيقى في سومر من وسائل التقرب الى الآلهة. وكانت آلهة سومر متعجرفة، وسريعة الغضب، لأنها كانت تضجر من ضوضاء الجماهير، وضجيجها، ولا تحتمل ذلك. فكان السومريون يعزفون على آلات القيثار وغيرها، ويغنون، لتسكين غضب آلهتهم. كما ان السومريين كانوا يعتقدون أن لآلهتهم طبيعة موسيقية. ولعل إنانّا السومرية، وتقابلها عشتار عند البابليين، كانت الناطقة الموسيقية باسم مجمع الآلهة في سومر. فهي تؤكد أن إله الحكمة أنكي أعطاها الآلة الموسيقية المدويّة، وأعطاها فن الغناء.

كما انها كانت تحتضن السلّم الموسيقي من أوله الى آخره من خلال قولها: «أنا الوتر الأول، أنا الوتر الأخير». وعشتار هنا تتحدث أيضاً عن الأوكتاف الموسيقي في السلّم السباعي، الذي يكون فيه الوتر الثامن تكراراً للوتر الأول (أوكتاف تعني شيئاً له علاقة بالعدد ثمانية). لكن عشتار لم تكن وحدها ذات صلة بالموسيقى من بين أعضاء بانثيون الآلهة في سومر.
بل إن آلهة سومر كلها كانت متوحدة مع السلّم الموسيقي بصورة عضوية، وذلك من خلال الأرقام التي خُصصت لهذه الآلهة. ان بانثيون الآلهة السومريين هو بانثيون موسيقي كما سنرى. وهذا مرتبط أيضاً بنظام الحساب الستيني عند السومريين، الذي يتخذ العدد «ستين» قاعدة له. وهو النظام الذي لا يزال العالم يستعمله في حساب الزمن، وفي قياس الزوايا، وفي عالم المثلثات. ولسوف نفرد لهذا الموضوع (لماذا اختار السومريون النظام الستيني في الحساب) كلمة خاصة.
لكننا الآن سنحاول الكلام على النظرية الموسيقية عند السومريين. عرف الإنسان الموسيقى منذ عشرات الآلاف من السنين. لكن النظرية الموسيقية، التي تتعلق بطبيعة السلالم الموسيقية، والمسافات الصوتية، عُرفت في مرحلة متأخرة. ومن الخطأ الشائع أنها تنسب الى فيثاغورس، مع أن فيثاغورس مشكوك في هويته، فضلاً عن أن كل ما ينسب إليه مقتبس من الشرق.
وقد حاول فنسنزو غاليلي (والد العالم غاليليو، الذي كان موسيقياً ضليعاً بفن الموسيقى) إعادة بعض التجارب التي تنسب الى فيثاغورس، وتوصل الى أنها مشكوك في صحتها تماماً. لكن فيثاغورس بقي يُعتبر المنظّر الموسيقي الأول في التاريخ. وهذا افتئات على الحقيقة التأريخية. فالنظرية الموسيقية تعود الى أيام سومر بما لا يرقى إليه الشك.
وليست صاحبتنا إنانّا، أو عشتار، وحدها، تقدم لنا الدليل على ذلك، بل جميع آلهة سومر، وعلم الفلك السومري أيضاً. فتراتبية المراكز عند الآلهة السومريين مبنية على أساس موسيقي. فكبير الآلهة السومريين، آن، أو آنو، يقترن بالرقم 60، أساس الحساب وفق النظام الستيني، وهو الوحدة الأساسية في الحساب السومري، عندما نقسم 60 على 60 (60/60).
ويقترن أنليل، إله الجبال وحامي البشرية، بالرقم 50. وبالقسمة على ستين يصبح موقعه في السلم الموسيقي 6:5. ويقترن أيا أو أنكي، إله المياه العذبة، ومدبّر شؤون الأرض، بالرقم 40. وعند ذاك يصبح موقعه في السلّم الموسيقي 3:2، وهذا أشرف المواقع في السلّم بعد الأوكتاف، وهو يقابل النوطة الخامسة، أي نوطة (صول) إذا انطلقنا من نوطة (دو).
وفي وسعنا أن نلاحظ هنا أن التشكيلة الثلاثية من الآلهة السومريين التي تشغل أرفع المراكز، هي (40، 50، 60)، وهذه تشكل المركب الصوتي الثلاثي (6:5:4)، أي (دو، مي، صول، صعوداً، ومي، دو، لا، نزولاً). ويقترن سين، إله القمر عند السومريين والبابليين بالرقم 30. وهذا يشكل الأوكتاف (الديوان) الأول في السلّم الموسيقي، لأن الثلاثين هي نصف الستين، أو الستين هي ضعف الثلاثين.
أما شماش، إله الشمس فيقترن بالرقم 20. ثم تأتي بعده عشتار، إبنة سين، ويقترن اسمها بالرقم 15. وهو نصف العدد 30. ومن ثم فإن عشتار تشكل أوكتافاً آخر. ويقترن الإله نرغال بالرقم 12. وهو إله العالم السفلي، أي الموتى، بحسب الميثولوجيا السومرية، وهو يعادل الخُمس (1/5)، إذا قسمنا العدد 12 على 60. وأخيراً يأتي مردوخ، الذي يقترن بالرقم 10، ويعادل السدس، أي 1/6.
وكان مردوخ إلهاً ثانوياً، إلا أنه قفز في ما بعد الى قمة قائمة البانثيون في مجمع الآلهة البابليين في الألف الثاني قبل الميلاد. وبحسب رأي العامل الموسيقولوجي الألماني شتاودر، نستطيع أن نحدد المدى الصوتي في الموسيقى السومرية بأنه أوكتافان ونصف أوكتاف، أو ربما أكثر بقليل، لأننا إذا عدنا الى مقولة عشتار «أنا الوتر الأول، أنا الوتر الأخير»، نجد أنها تؤكد هنا مسافة الأوكتاف في السلّم، لأن الوتر الأخير هو الوتر الثامن، وهو تكرار للوتر الأول بدرجة أعلى، أو أوطأ، بحسب الاتجاه، لأن السلّم الموسيقي السومري، والبابلي، كان سباعياً. وهذا يلتقي أيضاً مع عدد أيام الأسبوع. ويدعو الى الاعتقاد بأن الموسيقى السومرية والبابلية مبنية على أساس فلكي أيضاً.
أما لماذا كان المدى الصوتي للموسيقى السومرية أوكتافين ونصف أوكتاف (أو أكثر بقليل)، فذلك وفق التحليل الآتي للأبعاد الصوتية، المستندة الى أرقام الآلهة السومريين: ابتداء من كبير الآلهة آنو، الذي خُصص له الرقم 60، ونزولاً الى سين إله القمر، الذي خصص له الرقم 30، نحصل على أوكتاف، لأن الستين ضعف الرقم ثلاثين.
ومن الإله سين الى ابنته الإلهة عشتار، التي خصص لها الرقم 15، نحصل على أوكتاف آخر، لأن الثلاثين ضعف الخمسة عشر. أصبح لدينا الآن أوكتافان. ومن الإلهة عشتار الى الإله مردوخ، الذي خصص له الرقم 10، وهو آخر الآلهة في القائمة، نحصل على ثلثي الأوكتاف. وعند ذاك يصبح المدى الصوتي في الموسيقى السومرية أوكتافين وثلثي الأوكتاف. (للمقارنة، إن المدى الصوتي لمفاتيح البيانو سبعة أوكتافات. هذا كان في أيام فرانز لست. ولا أدري هل زاد بعد ذلك).
من كل هذا يتضح أن الأرقام المخصصة لآلهة سومر كانت لها أبعاد موسيقية، وهي: 60، 50، 40، 30، 20، 15، 12، 10. وهذه كلها من كسور العدد ستين، الذي يقبل القسمة عليها كلها من دون باقٍ. إن البعد الموسيقي للأرقام المخصصة لمجمع الآلهة السومريين يعطينا فكرة عن المكانة المقدسة للموسيقى عند السومريين، الى حد أن المواد التي تُصنع منها الآلات الموسيقية، مثل أمعاء الثور أو الخروف، في صناعة القيثار والعود، والجلود في صناعة الطبول، كانت لها قدسية أيضاً عند السومريين، لأنها تجترح تلك الأصوات التي تورث تأثيراً سحرياً لدى سامعيها.
وهذا ينسحب على المسافات الموسيقية أيضاً، وسر تأثيرها التراتبي في الأذن. فالمسافات الأكثر راحة للأذن، كالأوكتاف مثلاً، تُنسب الى الإلهة عشتار، التي تقول: «أنا الوتر الأول، أنا الوتر الأخير»، أي الأوكتاف.
وهذا يسري على أبيها سين، الذي يشكل أوكتافاً آخر. وتأتي بعد الأوكتاف، في تأثيرها المريح للأذن، المسافة الخامسة (3:2)، التي تنسب الى الإله أنكي، إله الحكمة، وهو واهب عشتار فن الموسيقى والغناء… من هذا كله يتضح لنا أن الموسيقى كانت لها قدسية عند السومريين، لأن مسافاتها الصوتية كانت مقترنة بالأرقام المخصصة لآلهتهم.