مسرحية مونودراما
الشحاذ
د. مصطفى عطية جمعة
mostafa_ateia123@yahoo.com
mostafa_ateia123@hotmail.com
ملحوظة : يمكن الاستعانة في الديكور ، بصور مكبرة ( بالحاسوب ) تعلق في المسرح أو مكان العرض ، لمشهد واقعي ملتقط حسب تفصيل كل لوحة مسرحية، ويمكن إضافة بعض المجسمات إمعانا في الإيهام .
اللوحة الأولى
( شارع مرصوف جيدا ، يلمع إسفلته تحت ضوء أعمدة النور الصفراء التي تنتصب في جنبات الشارع ، يبدو مسجد بقبة ومئذنة موصدة أبوابه ونوافذه ، ونرى ” زهير ” شابا في الثلاثينيات من عمره ، يقف بجوار المسجد ، يتفحص المارة من الناس باستعطاف ، يرتدي ثيابا غير دالة على فقره ، حيث يلبس قميصا فاتح اللون ، وبنطالا غامقا ، الشارع هادئ الحركة ، المارة فيه قلة ، ويمكن أن نرى وميض السيارات يلمع في الظلام ، يتحدث زهير بطريقة ساذجة، مع تلقائية في النطق )
زهير مقبلا على أحد المارة ويبدو شبح هذا المار :
أخي الحبيب ، ممكن لحظة ؟
( يتوقف الظل ، فيواصل زهير الكلام )
أريد منك مساعدة بسيطة ، أي مبلغ من المال ، ظروفي صعبة ، إنني عاطل يا أخي ، أعيش حياة بائسة ، تسألني: أين أهلك ؟ أنا أقول لك ، أنا من أسرة ممزقة، أبي طلّق أمي وأنا صغير ، كنا نعيش في بيت جدي ، والد أبي، وجدت نفسي وحيدا ، جدي مات ، وأبي تزوج امرأة قاسية ، وأمي تزوجت – زوجة ثانية -لرجل عجوز ، وعاشت ضرة على زوجته الأولى .
( يسكت ويتطلع في المخَاطب )
لماذا تنظر لي ؟ أنا أقول الصدق، والله لا أكذب ، هل تتخيل نفسك أنك تعاشر أهلا يكرهونك ؟ نعم ، أبي يضيق بي عندما أشتكي من قسوة زوجته ، وزوج أمي منعني من زيارتها ، فقط يمكنني أن أتصل بها ، إنني أعيش وحيدا تقريبا منذ صغري ، لا زلت أذكر وأنا في التاسعة من عمري ، كانت زوجة أبي لا تغسل ثيابي ، وتجبرني على أن أغسل ثيابي يوم أجازتي المدرسية ، يوم الجمعة ، كان أبي ينام حتى الظهيرة ، وأنا أستيقظ من الصباح الباكر ، أغسل ثيابي ، وأنشرها في الشمس ، وأنتظر حتى تجف .
( يتحرك الظل مبتعدا )
أرجوك لا تسرْ ، أعطني أي مبلغ لأتعشى به ، لي يومان لم آكل ، أنا أخوك في الدين ، في الوطن ، أنا إنسان مثلك .
( يتوقف الظل )
أشكرك لأنك تسمعني ، أنا في حاجة لمن يسمعني ، نعم ، لا أريد المال فقط ، أريد منك آذانا تصغي لي ، أريد قلبا يحتوي قلبي . تخيل يا أخي ، طفلا صغيرا في التاسعة من عمره ، يغسل ثيابه في ساحة البيت الخلفية ، ويطالعه زملاؤه من نوافذ بيوتهم ، ويهزءون به .
( يبكي زهير بحرقة )
كانوا يقولون لي اغسل يا ” غسّال ” ، لم أستطع الرد ، كيف أرد ؟ وأنا أراهم يتنعمون مع آبائهم وأمهاتهم ، وأنا أبي وأمي أولياني ظهريهما . ماذا تتوقع ؟ كنت أبكي ، وأنا أحمل ثيابي المجففة ، وأقوم بترتيبها في دولابي . تقول أين أبي ؟ هه، أبي لا يعرف من الدنيا إلا العمل والأكل والنوم . إنه طيب ، وكثيرا ما كان يقول لي : تحمّل يا زهير ، من أجل أبيك ، ويقول لي : أنت رجل ، وأكبر أبنائي، إلا أنه ظل ألعوبة في يد زوجته الثانية ، وأقول لك الثانية ، لأن هناك ثالثة ورابعة .
( ينظر للظل )
نعم ، أبي مسكين هو الآخر ، طلق أمي بعد عامين أو ثلاثة ، وسرعان ما تنازلت أمي عن حضانتي لأبي ، وتزوجت زوجها العجوز ، أمي جميلة ، كانت تحبني جدا ، ولكنها خضعت لضغط أهلها ، وتزوجت ، وذهبتُ بحقيبة ثيابي مع خالي إلى بيت أبي ، لأعيش مع جدي وجدتي ، وكلاهما مات ، وتركاني لزوجة أبي الثانية .
( يتهدج صوته ، ويعلو نشيجه ، يلتقط أنفاسه )
طلق أبي زوجته الثانية ، بعدما أنجب منها ولدين ، وجدت نفسي أنا وأبي في بيت واحد ، نعاني الوحدة ، سألته وأنا في الحادية عشرة من عمري : لماذا طلقتها يا أبي ؟ احتضنني وهو يقول : من أجلك يا بني ، هل تتخيلني خشبا جامدا ؟ كنت أبكي لبكائك يا بني ، ولكنني ماذا أفعل ؟ لقد أنجبت منها ولدين ، ولا أريد أن أخسرهما ، وأخسرك أنت أيضا ، فتحملت يا بني سلاطة لسانها ، وسوء خلقها ، ولكن الحمولة ثقلت عليّ ، وقرفت منها ومن وجهها ، فطلقتها ، وحسنا فعَلتْ أن أخذتْ الولدين معها ، هما صغيران ويحتاجان لرعاية .
( ينظر للظل )
سعدت بكلمات أبي ، أحسست أنه يحبني جدا ، وكنت أتفانى في خدمته ، شهور ووجدته يخبرني أنه تزوج الثالثة ، ويخبرني أنها امرأة طيبة ، وبالفعل كانت طيبة، ولكنها جاءت ومعها طفل ، كانت تدلـله ، وبالطبع أهملتني جدا ، وعانى أبي معها لأن زوجته الثانية كانت تطالبه بنفقة ابنيها ، وببيت مستقل ، فثارت زوجته الثالثة عليه ، وطالبته بالطلاق ، لأنها وجدت نفسها تنفق على أبي وعليّ أنا أيضا، وعدت لأعيش أنا وأبي في بيتنا ، الذي اسودت حيطانه وبهت أثاثه بفعل الزمن ، وفقر أبي . كنت في المرحلة الثانوية ، متفوقا في دراستي ، ولكن أبي قال لي : زهير ، ساعدني يا بني ، لقد كبرت في السن ، وراتبي من وظيفتي يضيع في نفقات عيالي ، اترك المدرسة ، واعمل ، تساعد نفسك ، وتساعد أباك .
( ينظر لمئذنة المسجد ، ثم للسماء )
أشهدك يا ربي ، لقد أطعت أبي ، وتركت دراستي ، وبدأت أعمل في حرف كثيرة، ميكانيك سيارات ، وفي محطة غسيل وتشحيم السيارات ، بائع في متجر ، كل شيء عملت فيه ، كنت أمكث شهورا ، ثم أجد نفسي مطرودا من العمل ، والسبب ليس مني ؛ إنهم يكرهونني ، نعم ، لأنني أفهم الشغل بسرعة ، وهم يريدون صبيا تابعا لهم ، فيطردني صاحب العمل ، أو الأسطى في الورشة . وأعود أبحث عن عمل جديد ، في بلدتنا الصغيرة . ياه ، إنه لشقاء كبير ، أن تفقد الاستقرار في البيت وفي العمل ، وتفقد مستقبلك ، وتصبح مهددا بالطرد .
( يتسمع من الظل )
لماذا لا أعمل في حرفة واحدة ، وأفتتح دكانا ؟ هاه ، كنت صغيرا ، وأبي سرعان ما تزوج الرابعة ، كانت فتاة تكبرني بأعوام قليلة ، وغار مني أبي ، كان يخشى أن يتركني في البيت معها ، وهي كانت لعوبة ، طردني أبي ، وعشت في الشارع، أتنقل بين أصحاب الحرف ، وأنا هنا في مدينة صغيرة ، أصحاب الورش يعرفون بعضهم البعض .
( يسمع بضيق ويرد بعصبية )
نعم ، هناك عيب فيّ ، كنت ثائرا على الأسطوات في الورش ، أنا أجيد العمل بسرعة ، ولا أحب من يتحكم في ، ويأمرني وينهاني ، أريد أن أكون حرا ، وساعتها سأعطيك عملا مميزا ، ولكنهم لم يفهموني ، وهذا سبب مشكلاتي في العمل .
أنا الآن ضائع ، بدون منزل ، بدون أهل ، بدون عمل ، بدون مستقبل ، هل تعطيني أي شيء ، أريد أن أتعشى ، الجوع يقرصني ؟
( يمد يده ، ويأخذ مبلغا من المال ، وينصرف الظل )
( إظلام )
اللوحة الثانية
( عند إحدى الجمعيات التعاونية ، حيث توجد سيارات عدة ، ونرى مخبزا ، ومحلا لبيع الخضروات ، ونشاهد زهيرا يقف في ركن شبه مظلم ، بالقرب من بعض السيارات المرتكنة ، وقد ظهر عليه الإجهاد ، وملابسه متسخة ومكرمشة ويكون حديثه طلقا ، يختار كلماته بعناية تناسب شخصا متعلما صاحب قضية )
زهير ( مشيرا لبعض المارة ) :
أنتَ يا أخي ، هل تسمح لي ؟ أريدك في أمر .
أنتِ يا أختي ، ممكن أن …
( لا أحد يلتفت إليه ،فالكل مشغول بما يحمل من أغراض )
زهير ( مواصلا الإشارة ) :
لماذا لا تستمعون لي ؟ أنا إنسان مثلكم ، لي حقوق عليكم ، ليس من المهم أن أكون مواطنا معي جنسية في بلدكم ، لأننا جميعا شركاء في الهواء والأرض .
( يتوقف البعض منتبها ، وتبدو ظلالهم في الضوء ، ونلمح فيهم رجالا ونساء )
أنا مولود على هذه الأرض ، في هذا الوطن ، الفرق بيني وبينكم أنكم تحملون جنسية هذا الوطن وأنا لا ، أنتم تتمتعون بجواز السفر والهوية المدنية وأنا لا ، لكم أرقام تميزكم ، وتحصلون بها على حق العمل والسكن وإعانات البطالة وأنا لا ، تربيتم في مدارس الوطن ، وتتعالجون في مستشفياته وأنا لا .
( يسمع بأسى شديد ، والدموع تطفر من عينيه )
تسألني عن مكان مولدي . حسنا ، أنا مولود على هذه الأرض ، أسرتي هاجرت منذ سنين إلى هذا البلد ، عاشوا ، وعملوا ، وتمتعوا بخيرات البلد ، ولكن القوانين الجائرة ، ميّزت بيني وبينكم ..
( يبكي ، وهو ينظر إلى المارة المتوقفين )
كل مشكلتي تتمثل في كلمة واحدة ، أبي وأمي جاهلان ، لم يعرفا أهمية الحصول على جنسية هذا الوطن ، قدم أبي من بلده ، البعيد خلف البحار ، كان يطمح في جمع مبلغ من المال ، يتزوج به ، وجمعه ، وتزوج أمي ، وجاءت معه إلى هنا .
( يتهدج صوته ، ويجفف دمعاته )
وولدت أنا وإخوتي على هذه الأرض ، مرت سنون وسنون ، لم يستطع أبي العودة إلى الوطن ، كثر أولاده ، ولم يهتم بالإجراءات التي تجعله يحصل على الجنسية … ثم كانت المصيبة الكبرى .
ضاع جواز سفره ، ولم يكن مسجلا في سفارة بلده الأصلية ، ولم يهتم هو بذلك، كنا نأكل ونشرب ونتعلم في المدارس حتى المرحلة الثانوية … ، عندما كانت الدولة ترحب بالمهاجرين ، وعندما كثروا ، وباتوا عبئا عليها ، راحوا يطالبوننا بالرحيل …
كيف نرحل عن هذه الأرض ؟! لم أر بلد أبي الأصلية ، إنها مجرد شذرات علقت في أعماقي من كلمات أبي وأمي عنها ، ومات والداي ، وهاجر أخي عندما سدت أمامه كل الأبواب ، لا عمل ، لا جنسية ، لا أمل ، قدّم أوراقه إلى مصلحة الجوازات هنا ، وحصل على جواز السفرة الواحدة ، وهاجر بعيدا ، إلى كندا ، هل سيبدأ معاناة جديدة مثل أبي ؟ أختي تزوجت ، وحصلت على جنسية زوجها ، وغادرت معه إلى استراليا ، وبقيت أنا …، أنا .. ، وحيد ، ضائع .
( بكاؤه عالي الصوت ، وينصت لسؤال لأحد السامعين )
لماذا لا أعمل ؟
وأين العمل ؟ إنني بدون بطاقة مدنية ، أي لا رقم مدني عندي ، هذا الرجل المقدس ، الذي يجعل الواحد فيكم ينال حقوق الآدميين ، أما أنا فلا أحمل إلا شهادة ميلاد ، ميلادي على هذه الأرض ، هذا ما عندي ، ولا غير ، ومعي أوراق تثبت أنني تعلمت هنا ، هنا ، هنا … هذا ما عندي .
( يوجه كلامه بحدة إليهم )
انظروا ماذا فعلتم فيّ ؟ أنا أتهمكم كلكم ، أنتم سبب جوعي ، وتشردي في الشوارع ، تحملون أكياسا مملوءة بالأطعمة ، تأكلون بعضها ، وترمون أكثرها في القمامة . وعليّ ، أنا ، أن أفتش في القمامة ، لألتقط طعامي ، يشاركني في ذلك : القطط ، والكلاب ، وبعض فاقدي الجنسية مثلي ، وبعض العمال الآسيويين الذين اشتروا وهم الهجرة إلى الجنة هنا ، وسرعان ما وجدوا الجنة جحيما .
( يمد كفيه ، ودموعه سائلة )
أريد أن أشتري طعاما نظيفا ، وثيابا نظيفة ، أريد أن أحمل أكياسا بلاستيكية ملونة بغير اللون الأسود ، لقد سئمت أكياس القمامة السوداء التي أمزقها في الصباح الباكر ، كي أحصل منها على فتات .. ، وقبل أن تأتي سيارة القمامة ، وتفرغ الصناديق الحديدية المكتظة في مؤخرتها .
( تتحرك بعض الأرجل مبتعدة ، وتمتد أيدي أخرى له بالمال ، يتناول المال منها، ويضعه في جيبه )
أخي مغترب في كندا ، وأنا مغترب هنا ، وأختي مغتربة في استراليا . كان أبي يقول أواخر أيامه : محكوم بالشقاء عليّ وعليكم ، وكنّا في بداية شبابنا ، نرى الدنيا بأعين الحب ، المستقبل يتلألأ أنوارا وسيارات وشققا فخمة . صدقتَ يا أبي، عشت في كوخ مصنوع من حديد ” الشينكو ” الذي يكوينا بسخونته صيفا ، وتلهب ظهورنا برودتُه شتاء .
( يضحك عاليا ، بعدما سمع تعليقا من أحدهم )
حقا ، لست أنا الوحيد فاقد الجنسية ، هناك آلاف مؤلفة ، كانوا يسكنون معنا في بيوت الشينكو ، هناك على أطراف العاصمة ، هم الآن يعملون في أبراج العاصمة الزجاجية المتلألئة بالمصابيح ، ولكنهم يعملون خدما ، وحراسا ، يخدمون من تربّوا معه على هذه الأرض ؛ شاركوه الطعام والتعليم والمرض ، وافترقوا عنه ، هو يأمرهم ، وهم يطيعونه .
( يحتد صارخا )
أنا غير هؤلاء ، هم لا زالوا يعيشون في أكواخ ، راضين بمعيشتهم تلك ، رغم أن الحكومة هدمت أحياء الأكواخ حول العاصمة ، ولكن هؤلاء الخدم ، ذهبوا بعيدا ، وصنعوا أكواخا أخرى ، وتزوجوا أخوات بعضهم ، ليتناسلوا أطفالا تعساء. أما أنا فغيرهم ، أنا أريد أن أعيش كريما ، لذا رفضت أن أبني كوخا جديدا ، وأعيش في حي من الصفيح ، مع الفئران ، ومياه المجاري التي حفرت قنوات وسط الأكواخ ، أريد أن أحيا مثلكم ، ولو للحظات ، أرجوكم ساعدوني ، ساعدوني …
( يشهق بالبكاء ، ثم تمتد بعض الأيدي بالمال له ، و يظلم المسرح تدريجيا )
اللوحة الثالثة
( في أحد المجمعات التجارية الحديثة ( المول ) ، حيث أنوار المحلات متلألئة، ونرى لافتات دعاية لأفلام سينمائية ، ومحلات بيع ملابس الكاجوال ، ومقاهي الإنترنت وزهير يقف في ركن قصي جانب أحد المحال التي تبيع مستلزمات الهواتف النقالة ، بثياب مختلفة ، متوسطة القدم ، وتبدو في الإضاءة وجود بعض المتجمعين حوله من رجال ونساء )
( زهير بوجه نادم ولسان متعثر ، وتبدو الكلمات مكسرة في النطق ، مع خجل ظاهر ، يوحي أنه شخص لا يجيد فن الحديث ، بقدر ما يريد أن يفرغ ما في صدره من هموم )
( زهير متجه بوجهه نحو الناس المتجمعين ) :
أنتم تسألون عن قصتي ، سأحكيها لكم ، إنها قصة يمكن أن تحدث لأي منكم أو منكن ، تعلّموا مني ، أنا مثال واضح أمامكم ، على الفشل والخيبة والاستغلال ، وقد انتهى المطاف بي إلى النوم في مكان لا أستطيع أن أنتصب فيه واقفا ، ولا حتى الجلوس قاعدا .
بحق الله وحده ، أدعوكم لتشاهدوا هذا المكان الذي أنام فيه ، ليس سردابا في منزل ، ولا غرفة أسفل السلالم ، ولا غرفة حارس في مبنى أو سائق في منزل، فهذه الأمكنة مطمح لي ، وودي أن أعيش فيها ، إنها حلم بالنسبة إليّ الآن .
( يتنشج بدمع متساقط ، ويقلب عينيه في الوجوه حوله )
إنني أعيش في إحدى مواسير مياه الصرف الصحي الكبيرة ، والماسورة فوق الأرض، أخاف يوما أن أستيقظ وأجد نفسي محمولا أنا وهي ، على رافعة كبيرة ، وتهبط بي إلى باطن الأرض ، ثم أجد مياه المجاري تغرقني .
آه ، آه ، ما أبشع هذا !
لقد كنت أعيش في شقة فاخرة ، غرفتين وصالة كبيرة ، في بناية بها مصعد، وكنت أركب سيارة فاخرة ، وآكل في المطاعم ، والآن ، أنا كما ترون .
( يتوقف منصتا ، لأسئلة عدة ، ثم ينطلق متحدثا بسرعة )
لا ، لست غبيا ، ولكنني ضحية الاستغلال ، من أقرب الأصدقاء لي .
أنا من أسرة مفككة ، أبي وأمي منفصلان ، منذ زمن بعيد ، وعشت مع جدي وزوجته الثانية ، رعاني حتى أنهيت تعليمي الجامعي ، ثم ساعدني أبي وجدي بنفوذهما وعينت محاسبا في أحد البنوك ، نعم ، في البنك الوطني للتنمية ، واسألوا من في البنك عن اسمي ، سأعطيكم اسمي كاملا لمن أراد التأكد . كان راتبي كبيرا ، سعت زوجة جدي إلى طردي ، فقد أرادت أن تزوجني من ابنتها المطلقة، الابنة تكبرني سنا ، فرفضتُ ، وقررت أن أترك المنزل ، وأعيش بعيدا عنها ، وكنت أزور جدي من آن لآخر ، وأزور أبي ، عشت في سعادة بمفردي، شقة وسيارة وراتب جيد ، ولكنني كنت أقاسي الوحدة ..
( يتمشى قليلا ، وهم يتنسم هواء التكييف النابع من عمق المول التجاري ، بينما تزداد الرؤوس حوله ، ونسمع أصوات مصمصة الشفاه ، يكمل زهير ، والبكاء يحبس كلماته )
نعم ، كنت أعيش وحيدا ، لا صديق لي ، فقد رباني جدي وجدتي منذ طفولتي على أن ألعب وحدي ، وكانا يحذراني من عيال الشارع ، وكنت لا أختلط بزملائي في المدرسة ، كان جدي يوهمني أنهم يصادقونني من أجل عائلتي الكبيرة وأموالها ، فلم أتعلم فن الكلام ، ولا تكوين الصداقات ، وعشت في صحبة خدم جدي ، ولا تسألوني عن أبي ، إنه مشغول بزوجته الثانية الجميلة ، يبدد كل ماله على طلباتها التي لا تنقطع : سفر للخارج ، أفخم الثياب ، دفع مصاريف المدارس الأجنبية لأولاده منها ، أما أنا ، فلي الله ، وجدي وجدتي .
( يبكي ، بحرقة ، ويواصل )
وأنا في الخامسة عشرة من عمري ، ماتت جدتي ، الحبيبة ، الطيبة ، وعشت شهورا مع جدي في رعاية الخدم ، وسرعان ما تزوج جدي من زوجته الحالية، وهي مزواجة ، وكبيرة في السن ، تحملتها كثيرا ، كانت تسبني ، وتعايرني بأن أبي وأمي لا يحباني ، ولا أحد يرغب في ، كرهتها ، وكرهت الناس ، وفي نفس الوقت ، ودي أن أصاحب وأصادق الشباب .
تخيلوا …
أنني لم ألعب طيلة عمري مع أقران لي ، لا في البيت ولا الشارع ، ولا حتى في المدرسة ، كنت أرتكن للحائط في حصة التربية البدنية ، أشاهد زملائي وهم يلعبون ، ويضحكون ، ويجرون ، وأنا ثابت مكاني ، فسموني الصنم ، وأبا الهول. وحينما كنت أتكلم معهم ، كانوا يسخرون من طريقتي في الكلام ، ويقولون: أنت أبله ، عبيط ..
وظل الحال معي في الجامعة ، أذهب بمفردي ، وأعود بمفردي ، وآكل بمفردي، وأتنزه في الحدائق بمفردي ، وأذاكر بمفردي …
كنت أشتكي لجدي ، فكان يضحك ، ويقول لي : أنت أحسن منهم كلهم ، وغدًا سيسعون للتعرف بك ، ومصاحبتك ..
وعندما أقابل أبي أحكي له ، راغبا أن يعلمني ، ولكنه كان يستمع لي وكأنه لا يستمع ، وعندما يحادثني كأنه في عالم آخر ، مع زوجته ، وعياله منها .
( نشيجه ، الذي يتحول إلى بكاء عالي الصوت ، يحاول أن يهدأ ، ويصرخ قائلا )
ها أنا أمامكم ، هل أنا أبله ؟ أنا مثلكم ، بل أحسن منكم ..
( يصمت ، ويقول بعزم )
أول ما عملت في البنك ، قررت أن يكون لي أصدقاء ، سعيت لزملائي في البنك، ولكنهم نأوا عني ، كانوا لا يحبونني ، وودي أن أحبهم ، وكذلك الحال مع الفتيات، كن ينظرن لي شذرا ، رغم أنني كنت أحكي لهن عن عملي ، وتعليمي في الجامعة ، فكن يبتعدن ، يبتعدن …
ظللت هكذا ، أعاني ، وأعاني ، الكل بعيد عني ، وكنت أسمع همسات الموظفين في البنك عن خيبتي وسذاجتي ، وبعضهم يردد : الموظف العبيط ، وبعضهم تجرأ عليّ ، فتعاركت معه ، وضربته بقسوة أمام الموظفين والزبائن ، وتحول الأمر لقضية ، وكدت أُفَصل من البنك ، لولا تدخل أقاربي ..
ظللت بهذا الشكل … الوحدة ، الفراغ ، حتى قابلته ..
( يضحك بعصبية ، ويقهقه )
قابلت ” عماد ” ، شاب وسيم ، هو تعرف بي ، كنت في النادي أجلس وحيدا ، أنظر لشلل الأصدقاء ، والشباب والفتيات ، ولم أنتبه إلا على صوته ، يجلس أمامي ، يعرفني بنفسه ، ويسألني عن سبب جلوسي وحيدا ، تلعثمت في الكلام، واضطربت .. ، وتصببت عرقا ، ولكنه ضحك ، وبدأ يحكي بتلقائية ، عن عمله ، فأخبرني أنه يعمل موظفا في البلدية ، الشؤون البلدية .. ، هكذا أخبرني ، وفي الحقيقة أنا لا أعلم أين يعمل بالتحديد ..
( يبتسم ، وينظر لملابسه )
عماد كان مفاجأة في حياتي ، شاب جذاب ، يجيد الحديث ، بات يخرج معي يوميا ، نقضي الساعات الطويلة ، نتغذى ونتعشى سويا ..
( يصمت ، ثم يضحك )
على حسابي طبعا ، كنت أقابله في أحد الشوارع ، فأنزل من سيارتي ، ويتولى هو قيادتها ، يوصلني للبنك ، ثم يركب السيارة إلى عمله ، ويعود في الظهيرة ليعيدني إلى البيت لنتغذى سويا ، وبمرور الوقت ، بات يقيم معي في الشقة إقامة كاملة ، كنت فرحا به ، عرفني على بعض الفتيات ، وكنت أنفق ببذخ ، من المال الذي ادخرته.
كنت أحكي معه عن مشاكلي ، مع الناس وفي العمل ، كان يبتسم ، ويقول لي سأحلّها كلها ، سأجعل الشباب يجرون لمصاحبتك ، والبنات تتلهف للكلام معك، علمني كيف ألبس ملابس الكاجوال ، وكيف أقص شعري على أحدث الموضات، وأتعطر بالروائح الفخمة ، وعلمني كيف أتكلم ، ومتى أسكت ، تغيرت شخصيتي، وأحببت الحياة ، ووجدت شبابا من طرفه يصادقونني ويسهرون عندي في الشقة .
وظل معي ، يوما بعد يوم ، ثم أخبرني أن أمه في البلد ، تمر بأزمة صحية ، وفي حاجة لعملية جراحية سريعة ، فأخبرته أن لا مال عندي ، فقال يمكنني أن أحصل على قرض من البنك ، ويخصم أقساطا من راتبي .. ، فلما سألته عن سبب عدم اقتراضه هو ، وجدته يغضب ويتهمني بالخيانة ، وأنني لست بصديق ، وأخبرني أنه ينفق راتبه على أسرته وإخوته وأخواته . فسارعت للاقتراض ، وأعطيته المبلغ ، ثم تتابعت طلباته ، في السهر ، والإنفاق ، وتراكمت القروض علي ، وبعت سيارتي ، حتى وجدت نفسي في آخر المطاف ، أبيع أثاث شقتي وأكتفي بفراش وكراسٍ معدودة ، ولا أحصل من راتبي إلا على تراب النقود … والباقي يذهب للديون وفوائدها .
وكانت المصيبة الكبيرة ، إدماني الخمر ، فحرضني صاحبي على الاختلاس من عهدتي في البنك ، بدأت بمبالغ قليلة ، وسرعان ، ما اختلست مبلغا كبيرا ، وعرفوا أمري ، وكان مصيري الطرد من الخدمة ، حرصا على سمعة أبي وجدي وعائلتي الكبيرة …
وها أنا الآن في الشارع .. ، لا عمل لي ، لا راتب ، الديون تطاردني ، أما أصحابي فقد تفرقوا عني .
( باستعطاف )
أرجوكم ، ساعدوني ، أريد مكانا أنام فيه ، أريد أن آكل ، أريد أن أنصب قامتي في مكان نومي …
ساعدوني …
( تمتد الأيدي له بالمال ، ويمدّ يده على استحياء ، و يظلم المسرح تدريجيا)
اللوحة الرابعة
( في حارة شعبية بسيطة ، بيوت من طابق واحد ، ونسمع جلبة الشارع وأصوات مختلفة : رجال ونساء وأطفال ، ونشاهد ” زهيرا ” وهو يرتدي ثيابا رثة ، ويظهر عليه صفرة الوجه ، وهناك هالات سوداء حول عينيه ، ويقف مستندا إلى عكاز غير واضح للوهلة الأولى ، وتبدو قدمه مقطوعة ويتحدث بصوت متقطع النبرات )
( زهير متجه نحو الناس ويبدو في الظلال رؤوس أطفال ونسوة ورجال )
جئتكم يا أهل الخير ، يا أيها الطيبون ، ساعدوني ، ساعدوا أخاكم المسكين، أنا لا أسعى لنفسي ، أبدا والله ، في رقبتي أكوام لحم .
( أصوات متداخلة ومتسائلة )
تسألونني : لماذا لا أعمل ؟
حسنا سأجيبكم ، ولكن أستحلفكم بالله أن تصدقوني ، فقد تعبت قدماي من الوقوف طوال اليوم ، واشتعلت رأسي تحت وهج الشمس ، أستحلفكم ألا تردوني خائبا ، فالأفواه الجائعة تنتظرني ، وأعيش شقاء لا حد له .
أنا لا أعمل لأنني … ، انظروا ، لأنني معاق ، بدون قدم ، قدمي قطعت ، صدمتني سيارة ، وأراد صاحبها الهروب ، فداسَ على ساقي ، ليفتت عظامها ، ثم هرب ، وتركني ، أصرخ وسط الشارع ، وأنا أرى قدمي وساقي كومة من اللحم والدم والعظم الأبيض المهشم .
صوت : اذهب للشؤون الاجتماعية ، فهي تساعد المعاقين ، وتشغلّهم .
زهير : ههه ، أنتم تعلمون حكومة بلادنا ، ذهبت بالفعل للشؤون الاجتماعية بعدما نصحني جار لنا، فطلبوا مني ما يثبت أنني معاق ، فقلت لهم : انظروا لرجلي ، ضحكوا وقالوا : نريد شهادة من وزارة الصحة تثبت أنك معاق . ذهبت لوزارة الصحة ، فطلبوا مني أن أحضر تقريرا من المستشفى الحكومي الذي عالجني ، ذهبت للمستشفى ، فقالوا لي : هذا من زمن بعيد ، والسجلات تلفت مع تسرب مياه المجاري لها . وصرت ضائعا ، ولا أستطيع أن أفعل شيئا ، لا مهنة ولا حرفة .
( يبكي بحرقة ، ثم يستأنف حديثه )
مشكلتي ليست فيّ ، أستطيع أن أتحمل الجوع ، والبرد ، ولكن أخواتي وأبنائهن من يساعدهم ؟ لي أربع أخوات ، اثنتان تعيشان معنا في بيتنا ..
نفس الصوت يقاطعه : ألكم بيت وتشحذون ؟
زهير ( بأسى ) : نعم لنا بيت ، ولكنه من بيوت صفيح الشينكو ، وأخشاب القمامة، يقع على أطراف البلد ، بنيناه من الشينكو ، المتبقي من بناء أبراج البلد ، وببعض الطابوق الطيني والخشب ، ونعيش فيه ، بدون ماء ، ولا مجاري ، فأنتم أفضل منا، لديكم ماء وكهرباء ومجاري ، وحب بينكم .
أسرتي مكونة من أربع أخوات ، وأنا أخوهم الوحيد ، وأبي يعيش معنا ، أمي ماتت منذ سنوات لأننا لم نجد ثمن الدواء ، ماتت بالأنفلونزا ، ليست أنفلونزا الطيور ، بل الأنفلونزا العادية ، التي تمكنت من جسد أمي ، وأفسدت صدرها وكتمت أنفها فماتت بين أذرعتنا ، ونحن غير قادرين على شراء الدواء لها.
( يبكي مرددا : آه يا أمي ، يا أمي )
أسوأ شيء ، أن ترى أحب الناس إليك يموت ، بين يديك ، وأنت غير قادر على إنقاذه ، يموت وتعلم أن سبب موته قليل من المال ، أقل من ثمن وجبة غذاء فاخرة لواحد من أغنياء بلدنا ، وحسبي الله ونعم الوكيل .
عشنا في بيتنا ، ومعنا أبي ، الذي لا يهمه من الدنيا إلا أن يأكل وينام ، ويخرج يعاكس النساء ، ويأتي ببعضهن في البيت ، ويقول لنا إنها زوجته الجديدة، ويطالبنا أن نسدل الستار عليهما …
هذا أب لا يحترم بناته ولا ابنه الذي لا يأكل وجبة واحدة في يومه ، بينما تنام بناته على الأرض .
تسألون عن أخواتي البنات ، هل أتركهن للدعارة ؟ أم أتركهن يبعن أعضاء أجسادهن ليطعمن أبناءهن ؟ هذا لن يحدث والله .
( يحكي ببكاء )
تزوجت اثنتان من أخواتي ، وبقيت اثنتان ، كبرى المتزوجات تركها زوجها وهاجر للعراق ، منذ سنوات ، منذ الحرب بين العراق وإيران ، ولم يعد ، ولم نسمع عنه شيئا ، كل ما سمعناه أنه قتل في الحرب ، وهناك من قالوا إنه خرج من العراق إلى تركيا ، ترك لنا ثلاثة أطفال ، ينامون مع أمهم على الأرض . أما أختي الثانية المتزوجة ، فهي مطلقة ، بعدما أجبرها أبي على الزواج من صديقه العجوز حتى ينفق عليه في جلسات الحشيش ، أنجبت منه طفلين ، ثم مات ، لتعود إلى بيتنا …
( يعلو نشيجه )
أما أختاي الأخريين ، فهما في المنزل ، لا تستطيعان الخروج واحدة ضريرة ، والأخرى متخلفة عقليا ، خطفها لصوص ، واغتصبوها في بطن الجبل ، وعادت تضحك ، وثيابها ملطخة بالدم ، ماذا نفعل معها ؟ أنقتلها أم نتركها ؟ وفي الحالتين لا ذنب لها .
ساعدوني ، يا إخوتي ..، يا أخواتي …
أنا المسكين المعاق ، ساعدوا كوم اللحم المعلق بي .
( ينصرف عنه البعض ، وتمتد أيدٍ له ، يتناول المال ، وهو يكفكف دمعه، ويكتم نشيجه ، ويظلم المسرح )
اللوحة الخامسة
( أمام إحدى المصالح الحكومية ، سيارات واقفة أمامها ، وتبدو السجلات المحفوظة في شرفات المصلحة ، يعلوها التراب ، يقف زهير وحوله مجموعة من الموظفين المتسربين من الدوام ، وبعض الناس المراجعين للمصلحة ، زهير يتحدث بلكنة عراقية، ويرتدي ثيابا ليست بجديدة ويبدو أكبر من سنه )
زهير مستجديا بإباء :
كيف حالكم يا إخواني ؟
أخوكم إياد ، من العراق ، هل نسيتم العراق ؟
يبدو أن الانفجارات والقتل والاحتلال الأمريكي أنسوكم عراق العُرب ، نحن العراقيين ، حراس البوابة الشرقية للأمة العربية ، نحن أصحاب الحضارة الإسلامية ، ومن قبلها الأشورية والكلدانية والبابلية ، بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية . وظلت العاصمة الأولى في العالم ، أيام عز المسلمين والعرب .
ها أنا ، جئت بلدكم ، أنا وعائلتي ، زوجتي وثلاث من البنات ، فررنا من القتل اليومي ، التفجيرات التي تذيب الشوارع ، وتجعلنا نرى الأشلاء متطايرة ، ضاقت الدنيا أمامنا ، فقررنا أن نخرج من بغداد ، التي عشت وتنعمت بخيراتها، أنا وأبي وجدي ، فأنا من عائلة بغدادية عريقة ، كنت أسكن شارع هارون الرشيد الذي يشق العاصمة ، مارا بأفخم أحيائها .
صوت : لماذا لم تذهبوا إلى مكان آخر في العراق بعيدا عن بغداد ؟
زهير ( بأسى شديد وكأنه لم يستمع للسؤال ) :
لم أكن في يوم من الأيام أتوقع أن أترك بغداد ، عشنا فيها عندما تساقطت الصواريخ الإيرانية عليها ، واحترقنا بلهيب الطائرات الإيرانية ، حتى سعدنا ، ونحن نسمع الخوميني يقول : أحتسي السم ولا أقبل إيقاف الحرب ، وها أنا أقبل وقف إطلاق النار. رقصنا في الشوارع يومها ، لقد وقفت حرب استمرت عقدا ، ووقف النزف الذي أخذ أخي الوحيد ، وأمات أبي وأمي بحسرتهما عليه ، ساعتها تخيلت أن الدنيا ابتسمت لنا ، أنا وزوجتي وابني وبناتي . ثم عشنا أهوال حرب أمريكا علينا ، تسمونها أنتم حرب تحرير الكويت ، ويسمونها في أمريكا حرب عاصفة الصحراء ، ونسميها نحن كما علّمنا “صدام حسين “: أم المعارك، اعتدنا أن نردد ما يقوله إعلامنا ، وعندما انتهت حرب العاصفة ، وجدنا أنفسنا بلا دواء ولا حليب ولا معدات ، وجدنا أنفسنا نتقهقر للخلف ، نعود لأوائل القرن العشرين.
لا تستغربوا ، فقد عشت العراق في كل محنه ، أحببت أحمد حسن البكر عندما كان الإعلام يتغنى به ، فلما تولى صدام ، وتناوبت الصحف في وصف مساوئ البكر ، كرهنا البكر ، وأحببنا صدام ، أحببناه حبا غصبا عن قلوبنا ، ندعو له ، وقلوبنا لا تعرف معنى الدعاء ، ولا ترى أثره ، ومع ذلك ، عندما شنق صدام في صبيحة عيد الأضحى ، بكيت عليه بكاء شديدا ، أحسست أنه كان رمزا في زمن افتقدنا فيه الرموز .
( يواصل دون أن ينظر للمستمعين له وكأنه يناجي نفسه )
عندما سقط العراق ، وجدنا أسماء جديدة تطل علينا ، في المنطقة الخضراء ببغداد ، أسماء عاشت في أمريكا ، تتكلم الإنجليزية أفضل من العراقية ، وتتحدث عن حقوق الإنسان ، وعن الحرية والديمقراطية ..
كنا نحن العراقيين نهزأ مما نسمع ، لأننا نعرف ما يجري على الأرض ، ليست مسألة سقوط تمثال ، إنها مسألة طعام وشراب وكهرباء ومواصلات ، نحن نكتوي بالنقص ، وهم يرفّلون في النعيم ، ينهبون نفطنا ، ونحن نصطف أمام محطات النفط بالساعات .
( ينظر لهم )
صدقوني ، أنا من أعرق عائلات بغداد ، أبي كان تاجرا ، ورث التجارة أبا عن جد ، نحن عائلة العطار ، أعلم أن هذا اللقب موجود في كل مدينة عربية ، ولكننا العائلة الوحيدة في بغداد التي تحمل هذا اللقب ، فنحن أرباب العطارة ، منذ القدم ، وبعض أبناء العائلة يرجعون هذه المهنة إلى زمن أبي جعفر المنصور .
وأنا عملت محاميا ، وحافظت على دكان أبي ، وهذا ما جعلني أتحمل كل ما جرى ، وتماسكت أنا وأولادي طيلة سقوط بغداد ، وحتى بعد سقوطها ، ونحن نشاهد الأمريكان يجوبون شوارعها ، كنا نعلم أن الخيانة حدثت ، ولكن كتمنا ما في صدورنا ، وفضلنا الصمت ، وهذا حيلتنا .
صوت : لماذا خرجت إذن ؟
إياد ( بهدوء ) :
خرجت لأن الكره بات بيننا ، انقسمنا إلى كانتونات : للشيعة والسنة والأكراد، وعندما يكون البأس بيننا ، فقد ضاع وطننا . الوطن تعايش ، فإذا لفظنا بعضنا ، فليسعنا وطن آخر .
صوت : خرجتم محملين بالمال ، فلماذا تتسول ؟
إياد ( باستنكار ) :
أي مال !؟ لقد بعت بيتي ، ودكان أبي ، وسيارتي ، وكل شيء ، بعتها بربع قيمتها ، ومعظم ما أخذته من مال ، كان رشوة لمن أخرجنا من أرض العراق .
ألا تصدقونني ؟
تعالوا معي إلى بيتنا ، هنا ، وانظروا كيف نعيش ، وماذا نأكل ، أنا المحامي ، سليل أعرق عائلات بغداد ، عائلة العطار ، أعيش أنا وزوجتي وبناتي في غرفة واحدة ، طعامنا واحد ، خبز فقط .
جئت إليكم ، أريد أن أشعر بالحياة ، أشعر أنني عربي مثلكم ، هل تقبلون أن أكون واحدا منكم ، لقد ضاع وطني ، فأردت أن يكون لي وطن آخر ، في بلد عربي آخر ، فاخترت بلدكم .
طبعا ، ستسألوني ، لماذا لا أعمل ؟
هذا السؤال الذي يتكرر على شفة كل من أشتكي له .
أنا لا أعمل لأنني لا أملك هذا الحق هنا ، لا يمكنني أن أتقدم لوظيفة ، وأي مهنة، لأنني لا أملك إلا جواز سفري ، وممنوع عمل الأجانب هنا إلا بإذن عمل، وهناك منع خاص للعراقيين من العمل ، شكرا للحكومة الرشيدة هنا ، منعونا من العمل ، وتركونا للضياع ، يسمحون لكل الجنسيات في العالم باستخراج أذون عمل إلا نحن ، والسبب في ذلك : حتى لا نستوطن هذا البلد . وما المشكلة لو عشنا معكم، الرزاق واحد ، وهو في السماء ، وينزل الرزق من السماء إلى الأرض ، الأرض التي نتنازع على الرزق فيها .
صوت : لم تحدثنا عن ابنك ، أين هو ؟
ابني ، آه ، آه ، لقد بقي هناك . تمسك ببغداد على أمل ، مشكلة ابني أنه لا يزال شابا صغيرا ، يرى المستقبل في وطنه ، يبدأ بعمره هو ، بتاريخه هو ، ولو أضاف لنفسه عمري وتاريخي وتجربتي ، لصار شيخا هَرِما ، ولكنه أصم أذنيه عن كلامي ، وكلام أمه ، وراح يتمسك بأرض لا تطيق أبناءها .
( يتوجه لهم كأنه يقرأ التاريخ )
ابني ورث جينات العائلة ، جينات التمسك بالأرض مهما كانت ، وأنا قاومت جيناتي ، وأدميت قلبي ، أما هو فلا يزال متيما ببغداد ، وأسواقها ، وصفحة نهر دجلة ، وعبير الفرات .
( تدمع عيناه )
أرجوكم ، ساعدوني ، حتى أشعر أنني واحد منكم ، ساعدوني حتى أكون منتميا لأرضكم ، ساعدوني ، حتى أعود وأقضي يوما سعيدا مع زوجتي وبناتي .
صوت : وكيف وصلت إلى هنا ؟
إياد ( بحنق وضيق ) :
أنت تسأل وكأنك تشكك في ، وفيما أقول ، لقد ذهبت إلى سورية أولا ، وهناك وجدت عشرات الآلاف من العراقيين، مستعدون للعمل في أي شيء . لم أستطع البقاء، فقد رأيت رئيسة جامعة بغداد ، تمسح السلالم ، حتى تعيل بناتها ، وتمنعهن من السقوط .. وفي الأردن ، رأيت العراقيات يفترشن الطرقات ، يبعن السجائر والحلوى ، وينامن في الشوارع ، وأنتم تعلمون ما في الشوارع ، ومعنى أن تنام امرأة في الشارع … ، وهذا ما لا أقبله على بناتي وزوجتي .
تركت الأردن ، وجئت هنا ، وكلي أمل فيكم ، لعل الله يجعلكم سببا في رزقي، أرجوكم ساعدوني ، ولا تتركوني أكره ذاتي ، وأكره كل أرض تنطق العربية .
( يبكي ، يبكي ، ويعلو نشيجه ، فيما تمتد الأيدي بالمال ، كل الأيدي ، فيما يظل هناك وجه يراقبه بتمعن ، ويدوّن بعضا من الكلمات في دفتر بيده ، ثم إظلام )